شعار قسم ميدان

هل أضحت الهند قوة "أميركية" ضد الصين ببحرها الجنوبي؟

القوات البحرية الهند - ميدان

نشبت في مارس الماضي أزمة صغيرة في المحيط الهندي تمحورت حول دولة جزر المالديف الصغيرة. بدأت الأزمة بعد إعلان الرئيس المالديفي يامن عبد القيوم حالة الطوارئ بعد رفضه قرارا من المحكمة العليا يقضي بإطلاق سراح عدد من قادة المعارضة. أفادت وسائل الإعلام الهندية في حينه عن تحرّكات لوحدات عسكرية هندية قبال سواحل المالديف، مما أوحى بأنها قد تتدخل في الأزمة. غير أنه في غضون أيام، دخل سرب من سفن البحرية الصينية إلى شرق المحيط الهندي، مما اجبر الهند على الوقوف في موقع دفاعي – تقع سلسلة الجزر المرجانية التي تشكل معاً جزر المالديف على بعد 400 كيلومتر فقط من الساحل الجنوبي للهند. وضع الرئيس مودي الجيش الهندي في حالة تأهب، لكنه لم يفعل شيئًا في النهاية، وقد يكون ذلك بسبب اقتراب الأسطول الصيني.

     

ورغم أن الأزمة بدت وكأنها انتهت بأسرع مما بدأت به، إلا أنها أبرزت اتجاها متناميا للتنافس بين الصين والهند على النفوذ في منطقة كانت تهيمن عليها الهند تقليديا. في السنوات الأخيرة، زادت وتيرة العلاقات الاقتصادية بين بكين وماليه (عاصمة المالديف) حيث انضمت جزر المالديف إلى مبادرة الصين للحزام والطريق ووقعت اتفاقية تجارة حرة معها. في الحقيقة، فإن جزر المالديف ليست جارة الهند الوحيدة التي فعلت ذلك، إذ وضعت الصين العديد من جيرانها تحت جناحها من خلال مبادرة الحزام والطريق. بالنسبة للمراقبين الخارجيين، من الواضح أن هناك منافسة كبيرة جديدة جارية في هذه المنطقة، حيث تقوم الصين باستخدام مزيج من تمويل البنية التحتية وتقديم القروض لهذه الدول، لزيادة تجارتها وقوتها البحرية. ورداً على نفوذ الصين المتنامي في منطقة تعتبرها الهند باحة خلفية بها ، بدأت دلهي في إقامة شراكات أكثر فعالية مع اليابان والولايات المتحدة، خاصة في المشاريع التنموية والتجمعات الاستراتيجية مثل ما يسمّى بالمبادرة الأمنية الرباعية (the Quad).

  

قبل عام 2012 لم يكن لدى الصين حتى سفارة في جزر المالديف. لكن نظرًا للموقع الاستراتيجي لهذه الجزر في المحيط الهندي، ليس من الصعب فهم لماذا قد تريد الصين أن تصبح جزر المالديف أحدث لؤلؤة تنضم الى "عقد اللؤلؤ" الصيني. وقد بنت الصين بالفعل مرفأ تجاريا رئيسيا في غوادر بباكستان وقاعدة عسكرية في جيبوتي، وهي أول قاعدة لها خارج حدودها. من الناحية الاستراتيجية ، تقع جيبوتي بالقرب من باب المندب، مما يتيح الوصول إلى كل من البحر الأحمر وقناة السويس. كما أن البلاد في حاجة ماسة إلى تحسين البنية التحتية لديها، فدخلت الصين من هذا الباب، من خلال مبادرة الحزام والطريق، عارضة تمويل تطوير البنية التحتية. لم تكن تلك المرة الأولى التي تستثمر فيها الصين مليارات الدولارات باسم التنمية – خاصة في الدول ذات المواقع الاستراتيجية. مثلا كان أن تلقت باكستان ، غريمة الهند اللدودة ، دعماً صينيا من  خلال مبادرة الحزام والطريق لبناء محطة للطاقة المائية في منطقة البنجاب التابعة لها ، والتي تقدر تكلفتها بـ 1.42 مليار دولار. في المجموع ، تعهدت الصين بتقديم 62 مليار دولار لتمويل الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني، مجدّدا في الباحة الخلفية للهند. ويحدث الشيء ذاته في بنغلاديش ، حيث وقع الرئيس الصيني شي في عام 2016 صفقات بقيمة 21.5 مليار دولار ، وأظهر اهتماماً بتطوير ميناء بحري عميق في بيرا هناك.

        

الرئيس الصيني شي جين بينغ (مواقع التواصل الإجتماعي)
الرئيس الصيني شي جين بينغ (مواقع التواصل الإجتماعي)

     

الآن، تقوم الهند واليابان بتقليد اللعبة الصينية ، حيث تتعاملان مع التنمية الاقتصادية كورقة استراتيجية، فقامتا بتحركات إقليمية باتجاه بنغلادش وشمال شرق الهند. غير أن ورقتهما الأقوى تظل هي " ممر النمو الآسيوي الأفريقي" ، حيث تعمل هاتان الدولتان على إنشاء ممرات بحرية في منطقة المحيط الهندي تتجاوز الصين. سيكون ميناء تشابهار الإيراني مفيدًا بشكل خاص للهند – التي تعهدت بتقديم 20 مليار دولار لبنائه – بالنظر الى أن باكستان تعيق حاليًا طريق الهند البري إلى أفغانستان.

     

لكن حتى في أفريقيا ، فإن الثنائي الهندي-الياباني يتنافس مع الصين التي قامت باستثمارات كبيرة في تلك القارة. ومع ذلك، قد يكون هناك مجال لمزيد من الاستثمار المستدام في كل من أفريقيا ومنطقة المحيط الهادي والهندي من قبل الهند واليابان، حيث يتزايد عدد الدول التي تسقط في "فخ الديون" الصيني. مثلا، وقعت لاوس في حفرة قيمتها 6.7 مليار دولار (الذي يمثّل ربع الناتج المحلي الإجمالي لهذا البلد الصغير) بعد أن قبلت بمشروع صيني لخط سكة حديد فائق السرعة يهدف إلى ربط الصين بالبر الرئيسي لجنوب شرق آسيا عبر لاوس وتايلاند. في حالة جيبوتي، تبلغ نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي حاليا 85 في المائة. وقد حذر تقرير صدر مؤخراً عن مركز التنمية العالمية من أن جيبوتي وسبعة بلدان أخرى "تواجه مخاطر متزايدة بشكل كبير متعلّقة بالتخلف عن تسديد ديونها السيادية إذا ما تم تنفيذ مشاريع الحزام والطريق المخطط لها". ولقد أصبحت سريلانكا المثال الأبرز على دبلوماسية الديون الصينية، بعد أن أجبر استثمار بكين لـ 5 مليارات دولار في ميناء هامبانتوتا البلاد في نهاية المطاف على تأجير الميناء إلى الصين لمدة 99 سنة بعد التخلف عن سداد الدين! بالنسبة لبلد اشتكى طوال قرن من الإذلال والإفقار على يد القوى الأجنبية، يبدو أن الصين تفعل الشيء نفسه تماما بالآخرين.

   

بالنظر الى هذه التطورات المقلقة بالنسبة لطوكيو ونيودلهي، دفعت العاصمتان من أجل إحياء المبادرة الأمنية الرباعية للولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا (the Quad) كبديل لمبادرة الحزام والطريق التي تقودها الصين. وقد ركزت المحادثات حتى الآن على أهمية إبقاء منطقة المحيط الهادئ والهندي "حرة ومفتوحة"، خاصة فيما يتعلق بـ "السلامة والأمن البحريين". وفي حين أن المحادثات هذه مرّت على موضوع إيجاد استراتيجية بديلة للبنية التحتية مرور الكرام إلا أن هذا يتغير بسرعة اليوم.

       

الرئيس الصيني، شي جين بينغ يصافح رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي (رويترز)
الرئيس الصيني، شي جين بينغ يصافح رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي (رويترز)

    

في الحقيقة، ان "اللعبة الكبرى" لا تدور حول "احتواء" الصين كما تريد بكين لنا أن نصدّق، بقدر ما هي تدور حول تنويع الخيارات المتاحة لبلدان المنطقة. بطبيعة الحال ، هناك عنصر "موازنة" جيوستراتيجية في هذا أيضًا. مثلا دفعت كانبيرا ، التي وجدت نفسها تحت رحمة بكين اثر فضيحة محلية شهدت تدخلّا صينيا في شؤونها الداخلية، دفعت مؤخرا باتجاه توثيق العلاقات مع كل من الولايات المتحدة وكتلة الاسيان كطريقة لموازنة تدخل الصين في شؤونها الداخلية. لقد بدأت أستراليا تفهم الكلفة الحقيقية لكون الصين الشريك التجاري الأكبر لها، فأطلقت نقاشا وطنيا حول كيفية الاستجابة لهذا التحدّي ، في خضم اتهامات خبيثة ضدّها بالعنصرية (ضد الصينيين). وبينما تدرس إدارة ترامب خياراتها الممكنة في اطار "إستراتيجية حرة ومفتوحة" تمضي اليابان والهند بالفعل قدما في تطبيق دبلوماسية خاصة بهما مبنية على تطوير البنى التحتية.

     

عندما تبدأ الدول في إدراك الآثار المترتبة على "دبلوماسية الديون" التي تدفع بها بكين ، سوف يفسح هذا المجال لدلهي وطوكيو لتقديم نموذجا بديلا لاتفاقات التنمية. وفي الوقت الذي تسعى فيه سريلانكا إلى زيادة حجم الاستثمارات من طوكيو ودلهي في الأشهر الأخيرة لتحرير نفسها من وطأة القروض الصينية ، تحتاج اليابان والهند لأن تكونا أكثر جسارة فيما يمكنهما تقديمه لسريلانكا. كما يتعين عليهما تصميم استراتيجية أوسع نطاقا ، بدلا من الاكفاء بردّ الفعل على خطط التنمية في الصين على أساس ارتجالي.

    

فهذه الاستراتيجية التفاعلية أخسرتهما بالفعل "السباق" في دول مثل نيبال وجزر المالديف —  اللتان ترتبطان بحكم موقعيهما الجغرافيين بروابط تاريخية بالهند، لكن البلدين تموضعا وراء الصين من خلال استثمارات الأخيرة في البنية التحتية لديهما. فاليوم تقوم مبادرة الحزام والطريق بتمويل شبكة ألياف ضوئية في جميع أنحاء نيبال (مع وجود مركز تحكّم في كاتماندو) ، مما سينهي اعتماد البلاد على الهند للاتصال بالإنترنت. يقول سفير جزر المالديف إلى الصين ، محمد فيصل ، إلى أنه على الرغم من أن الهند عرضت على بلاده "عددا من المشاريع"، إلا أنها "لم تحصل على التمويل اللازم" ليتم إدخالها حيّز التنفيذ. الآن تواجه الهند مشكلة أمنية في المنطقة، حيث تقوم استراتيجية "عقد اللؤلؤ" الصينية باجتذاب دولتين مهمتين على أعتاب الهند.

        

  

هناك شيء "ماهاني" في الطريقة التي تبني بها الصين قوتها البحرية وهيمنتها على التجارة في المنطقة، وماهان هو استراتيجي من البحرية الأمريكية عاش في القرن التاسع عشر ودرس موضوع الهيمنة على الطرق البحرية لتحقيق مكاسب تجارية واستراتيجية، وأصبحت قراءة أعماله إلزامية على المفكرين البحريين الصينيين. اليوم، تقتفي الصين أثر العقيدة التي طورها ماهان منذ ما يقرب مائة عام ، حيث تبدو التحركات الصينية وكأنها تسعى حثيثاً لتحقيق الهيمنة التي نادى بها، مستخدمة موضوع تطوير البنية التحتية كـ"طعم". تسعى هذه الاستراتيجية إلى التحكم بخطوط المواصلات البحرية الحيوية التي تمر عبرها التجارة والطاقة من أوروبا والشرق الأوسط. من وراء ذلك، تسعى الصين أيضاً إلى احتواء نهوض الهند ومنعها من الهيمنة على جوارها المباشر، وهذا ذروة النفاق بالنظر إلى دعم الولايات المتحدة لصعودها ولاستراتيجيتها في بحر الصين الجنوبي.

  

للأسف، أصبحت منطقة المحيط الهادي-الهندي بسرعة مسرحاً لإعادة ظهور الجيوسياسة بشكل واضح وكبير ، وجميع الادعاءات حول "الربح المتبادل" تتلاشى الآن فيما يمهّد التجار والمصرفيون الصينيون على نحو متزايد الطريق خلفهم لسفن البحرية الصينية . في هذه اللعبة الكبرى الجديدة تتنافس الهند واليابان مع الصين من أجل ضمان أمن الممرات البحرية في المحيط الهندي والهادي ، وقد تشهدان عودة ظهور "دبلوماسية السفن الحربية " إذا تدهورت الأمور أكثر.

   

كان روبرت زوليك قد دعا ذات مرة إلى أن تصبح الصين "صاحبة مصلحة مسؤولة"، وبينما تزعم بكين أنها لا تسعى الى تحدّي الوضع القائم، فإن الحقيقة هي أنها تعيد رسم قواعد اللعبة بشكل جذري. قد توجد بعض العدالة في هذا (المترجم: بالنظر الى ما ارتكب بحق الصين تاريخيا) فإن نظام الحكم الاستبدادي في الصين يعني أن النظام الذي تريد بناءه الصين في المنطقة قد يكون فتّاك بالنسبة للديمقراطيات الليبرالية فيها في النهاية ستعتمد مخرجات "اللعبة الكبرى" الجديدة في منطقة المحيط الهادئ والهندي على رغبة القوى العظمى الأخرى في آسيا في الدفاع عن النظام القائم ، بدلاً من احتواء ظهور إمبراطورية جديدة.

   

———————————-

ترجمة (كريم طرابلسي)

الرابط الأصلي