شعار قسم ميدان

شطرنج "درعا"..ما السيناريوهات القادمة بعد سقوط مهد الثورة السورية؟

midan - Fighters loyal to Syria
اضغط للاستماع

   

لا يُعرف بالتحديد كيف تجرأ بضعة تلاميذ بعد انتهاء دوامهم المدرسي على الاجتماع في مدرسة "الأربعين للبنين" ببلدة "درعا"، مركز المحافظة الجنوبية الغربية السورية الحاملة للاسم نفسه، عندما أخرجوا عبوات طلاء من حقائبهم الدراسية، وكتبوا على جدران المدرسة عبارات "إجاك الدور يا دكتور"، و "يسقط الأسد" و "الشعب يريد إسقاط النظام"، ثم فروا بعدها لمنازلهم، ورغم بساطة الفعل، إلا أنه وفي اليوم التالي مباشرة تمكنت المخابرات العسكرية من التعرف عليهم واعتقالهم بعد استنفارها بشكل غير معتاد في تلك البقعة الهادئة من البلاد.

   

خلال الاعتقال، فإن "معاوية الصياصنة"، أحدُ الأطفال الذين شاركوا بكتابة العبارات، لم يكن يعرفُ في البداية وعلى الأرجح أنه تسبب مع زملائه بإطلاق موجة واسعة من الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في "درعا" مُطالبة بالإفراج عنهم. موجة تمددت لعموم المحافظة، قبل أن تتوسع لتطال جميع أنحاء سوريا خلال شهرين فقط رغم الإفراج عنه وعن الأطفال الآخرين، معلنة انطلاق شرارة ما بات يُعرفُ بالثورة السورية في مارس/آذار 2011، ولتصبح درعا منذ ذلك الحين "مهد الثورة" في ذاكرة السوريين، قبل أن يرى كثيرٌ منهم أنها باتت تستحقُّ اسم "بداية النهاية" مع كل ما تحمله من عنف اليوم.

        

      

لا يعدُّ الحديث المنتشر اليوم، في صفوف السوريين المؤيدين والمعارضين على سواء، حول نهاية الثورة السورية مبالغة لغوية، فلطالما حظيت مدينة درعا باستقرار منذ دخولها في حيز اتفاق "خفض التصعيد" في نوفمبر/تشرين الثاني للعام الماضي 2017[1]، وهو اتفاق كان بمثابة ابتكار روسي خالص، وكانت كل من الأردن ذات الحدود المباشرة مع "درعا"، وأمريكا أبرز داعمي الجبهة الجنوبية، ضامنًا مباشرًا للمحافظة عليه، إلا أن درعا باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى لمصير مشابه لمصير" الغوطة الشرقية".

   

اقترب ذلك المصير بالتزامن مع تمكن قوات العقيد "سهيل الحسن"، الرجل المفضل لدى موسكو أو "النمر" كما يروق لعناصره تسميته، مدعومة بطائرات "البجعة" الروسية الشهيرة، من الوصول لمعبر "نصيب" الحدودي مع الأردن، وتقسيم مناطق المعارضة المسلحة في الريف الشرقي لمحافظة "درعا" كاملة بطريقة مشابهة لما جرى في "الغوطة الشرقية"، وإنهاء تمرد كل منطقة على حدة، لتنحسر الصورة في نهاية المشهد عن قبول فصائل المعارضة المسلحة في بلدات "اللجاة" و "بصرى الشام" و "الريف الجنوبي الشرقي" للتسوية، على الطريقة الروسية.

   

كانت الطريقة الروسية أشبه باستسلام عسكري منها لتسوية قتالية، متمثلة بتسليم الفصائل سلاحها الثقيل، وتشكيل قوى محلية مؤلفة من عناصر المعارضة لإدارة المنطقة ذاتيًا، بالتوازي مع انتشار الشرطة العسكرية الروسية على طول الحدود مع الأردن، مقابل إيقاف الهجوم العسكري على البلدات الشرقية للمحافظة، والسماح للمدنيين الذين كانوا قد نزحوا منذ بدء الحملة في الثاني والعشرين من يونيو/حزيران الفائت بالعودة لمنازلهم، واتخاذ قرار إجلاء المقاتلين الرافضين للصفقة من المعارضة لمحافظة إدلب شمال سوريا.

           

   

وبالرغم من أن مناطق الريف الغربي والشمالي لـ "درعا" إضافة لمحافظة "القنيطرة"، وهي المناطق المُلاصقة لحدود الأراضي المحتلة "إسرائيل"، لم تتعرض لهجمة عنيفة مشابهة لتلك التي تعرَّضَ لها الريف الشرقي بعد، إلا أن ردود أفعال المعارضة المسلحة فيها بدا وكأنها نابعة من ذاكرة صراع طويل مع روسيا، ذاكرة ترى الخطوة الروسية القادمة متوقعة وواضحة لحد كبير أكثر من أي وقت مضى، بالتزامن مع انتشار أخبارٍ عن توافق إسرائيلي روسي أردني، وضوء أخضر أمريكي، يسمح لنظام "بشار" باستعادة السيطرة على درعا، مقابل تعهد الروس بإبعاد الميلشيات الإيرانية عن حدود كلا البلدين، وهو أمرٌ أثار  تساؤلات لدى العديد من المعارضين حول مصير "الثورة" بعد استعادة النظام للمحافظة المعروفة برمزيتها العالية، مُستعرضين في شريط سريع أبرز المحطات التي ساهمت في الوصولِ لهذا المصير المحتمل.

    

ذاكرة الهزيمة

مستندًا للدعم الجوي الروسي البادئ قبل عامين، وبالاعتماد على سياسة الأرض المحروقة، تمكن نظام بشار من حسم الملف العسكري للعديد من المدن الثائرة على طول الفترة السابقة، ليجبر المعارضة على القبول بخيار التهجير في مختلف البلدات.

        

كانت البداية منتصف عام 2016، وتحديدًا مع بلدات "الغوطة الغربية" و"القلمون الغربي"، ثم تبعتها "حلب" وبلدات "بيت جن" و"الحرمون" بطول العام التالي، قبل أن يتمكن النظام مطلع العام الحالي من استعادة السيطرة على "الغوطة الشرقية"، أكبر قلاع المعارضة المسلحة في دمشق، ولتتهاوى تلقائيًا بلدات "القلمون الشرقي" و"جنوب دمشق" وريف "حمص" تحت تهديد عصا النمر وشبح مصير "الغوطة" المشابه، ليكون ذلك التنسيق الممتد بين قوى الدب الروسي جوًا، وقوى النمر برًا، سلسلة نارية كتبت الفصول الأخيرة من نهاية تواجد المعارضة المسلحة فيما أطلق عليه محافظات "سوريا المفيدة" [1]، ومانحة قوات النظام والميلشيات المساندة له، في نفس الآن، فرصة أكبر للتفرغ للهجوم على المحافظة الجنوبية، وإنهاء تمرد آخر معاقل المعارضة، مثيرًا التساؤل السابق ذكره أبلغ ما يكون "هل انتهت الثورة؟".

         

      

بالنسبة للكثيرين، فإن السؤال نفسه كان غريبًا جدًا قبل حلول سبتمبر/أيلول من عام 2015، العام الذي رست فيه حاملة الطائرات الروسية "أميرال كوزينتسوف" على سواحل "طرطوس"، محمّلة بعشرات من طائرات الجيل الخامس الروسية "سو 57″، قبل أن تقوم بقصف مئات الأهداف التابعة لقوات المعارضة في أنحاء سوريا[2]، متسببة في غضون عدة أشهر -وباستخدام سياسة الأرض المحروقة التي انتهجتها-  بانسحاب المعارضة من العديد من المناطق التي كانت قد سيطرت عليها في حلب وريف حماه الشمالي، وغوطتي دمشق، الشرقية والغربية، ومناطق أخرى، وُمعلنة في نفس الآن دخول المعركة طورًا جديدًا من الصراع.

   

طوال فترة تدخله، لطالما أتقن الدب الروسي التحرك ببراعة، مُوازنًا بين خياري اتفاقيات "خفض التصعيد"، وجحيم طائرات "سو57″، لإيقاف تفوق المعارضة على الأرض، وذلك عبر تجميد بعض الجبهات في اتفاقيات منفصلة، ريثما تتولى قوات العقيد "النمر" وبالتنسيق مع الطيران الروسي إخضاع مناطق المعارضة الأخرى وإنهاء تمردها، وهي تكتيكات استخدمتها روسيا أول مرة في مايو/أيار من العام المنصرف، واستمرّت حتى يومنا الحالي.

   

باستثناء الريف الغربي لدرعا والقنيطرة، وبشكل رئيس، فإن هناك ثلاث بقاع جغرافية واسعة خارجة عن سيطرة قوات النظام يحمل كل منها مستويات متباينة من الاستقرار وخصوصية أمنية مختلفة، حيث تشكلُ المنطقة الممتدة من إدلب شمالًا لـ "ريف حماه الشمالي" جنوبًا المستوى الأقل استقرارًا، وتسيطر عليها فصائل المعارضة وعلى رأسهم "هيئة تحرير الشام" -والتي تشكل "جبهة النصرة" المُصنفة دوليًا ضمن "قوائم الإرهاب" عمودها الفقري- بالإضافة لـ "هيئة تحرير سوريا" الفصيل المتشكل من اندماج العديد من الفصائل ذات الخلفية الإسلامية والوطنية، وصولًا لـ "فيلق الشام" الفصيل العسكري المفضل لدى تركيا بحسب محللين. وتتميز تلك المنطقة بالكثافة السكانية العالية، حيث يلامس عدد السكان فيها سقف ثلاثة ملايين نسمة بحسب إحصائيات أممية، وتنتشرُ فيها القوات التركية على خطوط التماس مع قوات النظام في اثنتي عشر نقطة مراقبة، كجزءٍ من اتفاقية خفض التصعيد التي طالت المحافظة في أكتوبر/تشرين الأول من العام الفائت [3].

     

       

إضافة لما سبق، فإن مناطق ريف حلب الشمالي والغربي، الخاضعة لسيطرة فصائل "درع الفرات"، والتي تشرفُ تركيا على تدريب وتسليح فصائلها العسكرية بشكل سخيّ، تمثل مستوى أكثر استقرارًا، حيث تشهدُ حضورًا كثيفا للقوات التركية داخل بلدات الريف الشمالي، وعلى نقاط التماس مع قوات النظام والميليشيات الكردية في المنطقة الشرقية، وتتميز تلك المنطقة بكونها تمثل عمقًا أمنيًا واستراتيجيًا لتركيا على حدودها الجنوبية، وذلك منذ تحريرها من تنظيم الدولة المعروف بـ "داعش" في أغسطس/آب عام 2016، وصولًا لاستعادة السيطرة على مدينة "عفرين" شمال غرب سوريا مطلع العام الحالي وطرد القوات الكردية منها للمنطقة الشرقية.

    

وإذا كانت المنطقة السابقة تستحق وصف خضوعها للنفوذ التركي، فإن المنطقة الشرقية تستحق بالفعل وصفَ المقاطعة الأمريكية الصغيرة، ولا يعود ذلك لكونها تشهدُ انتشارًا لقوات "سوريا الديمقراطية" الفصيل العسكري الكردي المدعوم أمريكيًا فحسب، وإنما لانتشار الآلاف من الجنود الأمريكيين وقوات التحالف الدولي في العديد من قواعدها ومطاراتها العسكرية، انتشارٌ بدأت ملامحه الأولى مع بداية الحملة الدولية الشهيرة ضد "تنظيم الدولة" أواخر عام 2014، واستمرت في تزايد حتى يومنا الحالي.

    

وعلى خلاف المستوى الذي تتواجد به القوات الأمريكية شرق الفرات، فإن المنطقة المحيطة بقاعدة "التنف" العسكرية، جنوب شرقي حمص، تخضعُ بشكل مباشر لسيطرة "مغاوير الثورة"، وهو أحد الفصائل المحلية المكونة من أبناء العشائر، والحاظية بدعم أمريكي سخي، وإضافة لكون المنطقة تمثلُ جيبًا عسكريًا للقوات الأمريكية في البادية السورية، فإنها تمثل أهمية استراتيجية عالية، ذلك كونها تطلُ على الطريق الواصل بين الحدود العراقية شرقًا، ومحافظتي دمشق وحمص غربًا، الطريق الموصوف بكونه "شريان حياة" النظام السوري، وبوابته لوصول الدعم الإيراني. لتشكلَ خارطة النفوذ آنفة الذكر مشهدًا يختصرُ المهمة العسيرة التي سيكون على روسيا وقوات النظام مواجهتها، في حال أرادت استعادة السيطرة على كل تلك المناطق السابقة.

   

وبدءً من مناطق درع الفرات، فإن تركيا تتحكم بشكل شبه كامل بمجريات المشهدين العسكري والمدني هناك، مستفيدة من الانتشار الكثيف لعناصر جيشها في أرجاء المنطقة، وعلى نقاط التماس الحدودية مع مناطق النفوذ الأخرى. ولذلك فإن محاولة استعادة مناطق الدرع لا يعد خيارًا صعبًا بالموازين العسكرية فقط كونها تحظى بتسليح كبير وخطوط إمداد مفتوحة، وإنما لما تشكله تلك المنطقة أيضًا من عمق استراتيجي تعتبره تركيا ضروريًا لأمنها القومي، في الوقت الذي لا تزالُ سحابة المشروع الكردي بالحصول على دولة مستقلة جنوب شرق تركيا تحوم في الأفق.

     

        

وبمحاولة تجميع خيوط المعادلة، فإن محاولة موسكو شن حرب مفتوحة على فصائل درع الفرات ستسهم بتصعيد التوتر بين روسيا القيصر "فلاديمير بوتين" وتركيا الرئيس المنتخب حديثًا "رجب طيب أردوغان"، كأطراف راعية للاتفاق، وهو تصعيدٌ لا توضح المقدمات الحالية وطبيعة العلاقة القائمة بينهما -على الأقل- أنهما مستعدان للبدء أو الخوض فيه الآن، لتظهر الصورة واضحة في نهاية المشهد، فاستمرار النفوذ التركي القوي في تلك المناطق، مرهون بالوصول لحل سياسي شامل للأزمة السورية، وتلاشي خطر المشروع الكردي، وهو حل يبدو في ضوء المعطيات الميدانية والسياسية الحالية بعيد الحدوث.

       

القيصر والصقر

في السابع عشر من فبراير/شباط من العام الجاري، وفي بلدة "خشام" الصحراوية الواقعة شمال شرق "دير الزور"، قام سرب من طائرات الأباتشي المروحية الأمريكية بإنذار مجموعة عسكرية بعدم الاقتراب من مناطق نفوذ "قوات سوريا الديمقراطية"، قبل أن تقوم الطائرات باستهداف المجموعة بالصواريخ نتيجة عدم استجابتها، مخلفة في ثوانٍ أكثر من مئتي قتيل، وهي صواريخُ لم تبادلها تلك المجموعة العسكرية بأي ردّ خشية تلقيها المزيد من الضربات.

  

بمرور عدة ساعات، أظهرت الأخبار أن القتلى لم يكونوا سوى مجموعة من المقاتلين الروس المرتزقة التابعين لشركة "فاغنر" الأمنية المرتبطة بالكرملين، والتي تعد النسخة الروسية من شركة "بلاك ووتر" الأمريكية. كانت تلك المجموعة من المرتزقة الروس في جولة استطلاعية بجوار قوات النظام السوري في "دير الزور"، وبرغم محاولات الروس تكذيب الرواية التي نقلتها وكالات إعلامية عالمية مثل "رويترز" ([4]) و"بلومبريغ" لاحقًا، والزعم بأن القتلى يتبعون لقوات نظام الأسد، إلا أنها وقعت في تناقض كبير مع اعتراف بعض وسائل الإعلام الرسمية الروسية بسقوط قتلى روس في تلك الغارة غير مرتبطين بالكرملين الروسي، غير أن الذي يستحق تسليط الضوء من هذا كله، هو إحجام الروس عن القيام بأية رد فعل تجاه الهجوم الأمريكي، إحجامٌ بدا أنه يرسمُ حدود الجرأة الروسية تجاه واشنطن في الملعب السوري خلال أية مواجهات قادمة محتملة.

          

undefined

ملاحظة: القاعدة الأميركية في منبج لم تعد موجودة
       

في ضوء ما سبق، وبالنظر لطبيعة الهيمنة الأمريكية والتحالف الدولي على المناطق الغنية بالنفط شرقي الفرات، وعلى الحدود الأردنية في محيط قاعدة التنف العسكرية، فإن التساؤل حول إمكانية استعادة روسيا السيطرة على تلك المناطق من الهيمنة الأمريكية يغدو من قبيل المزاح السياسي، فضلًا عن كونه، وبحسب محللين، بات يتعارضُ مؤخرًا مع مصالح موسكو في تقليم النفوذ الإيراني، والحد من حركة ميليشيات طهران بحرية داخل الأراضي السورية.

      

وبالنظر لاستحالة المواجهة الروسية الأمريكية، والاحتمال الضعيف للمواجهة بين بوتين وأردوغان، تبدو محافظة إدلب التي تعيشُ وضعًا ميدانيًا معقدًا مرشحة أكثر من أي وقت مضى لتكون وجبة الدب الروسي القادمة، في الوقت الذي تتوجه فيه الأنظار للقمة الروسية الأمريكية المرتقبة [5]، والتي ستجمع كلًا من بوتين وترمب في العاصمة الفنلندية "هلسنكي" في السادس عشر من شهر يوليو/تموز الجاري، والتي يُتوقع أن تُكتبَ خلالها الفصول الأخيرة من قصة الثورة السورية.

    

في الخامس والعشرين من يونيو/حزيران الفائت، وفيما كانت محافظة درعا قابعة تحت المحرقة الروسية، تلقى أهالي بلدات ريف حماه الشمالي إشعارًا عسكريًا من "هيئة تحرير الشام" بوجوب إخلاء بلداتهم، بالتزامن مع وصول أرتال عسكرية ضخمة تتبع للهيئة إلى تلك البلدات قادمة من إدلب، وبمحاولة معرفة السبب كان واضحًا أن الهيئة تخطط لفتح عمل عسكري جديد بقصد التخفيف عن درعا، بحسب ما بررته الهيئة نفسها خلال لقائها مع وجهاء تلك البلدات [6].

   

إلا أن أهالي تلك البلدات والبالغ عددهم أكثر من 200 ألف نسمة رفضوا الاستجابة لمطالب الهيئة، مطالبين بنقل المعركة لجبهات الساحل الساكنة منذ سنوات، بعيدًا عن مناطق تركز المدنيين، مستعيدين في ذاكرتهم المعارك التي افتعلتها الهيئة في أكتوبر/تشرين الأول من العام السابق في نفس المنطقة والتي عُرفت باسم معركة "أبو دالي"، بعد شهر من ضم إدلب إلى اتفاقية خفض التصعيد برعاية تركية [7]، مانحة روسيا والنظام مبررات كافية للتصعيد ضد بلدات إدلب الجنوبية، وهو تصعيدٌ استمرَّ عدة أيام قبل أن ينحسر عن خسارة المعارضة لعدد كبير من القرى خلال وقت قصير، الأمر الذي فسره كثيرٌ من المعارضين في ذلك الحين بأنه رغبة خالصة من قيادة تنظيم "تحرير الشام" «مشبوهة الولاءات» لتخريب اتفاق خفض التصعيد، أو إرغام تركيا على التنسيق معها لتطبيقه. وللمفارقة، فإنها تفسيراتٌ حاضرة اليوم لدى كثير من المعارضين، الذين اعتقدوا بإمكانية وجود علاقة وثيقة بين معركة الهيئة المزعومة قبل عدة أيام، ومنح كل من الروس والنظام السوري مبررات كافية لخرق اتفاق خفض التصعيد في المحافظة الخضراء، تصعيدٌ قد ينتهي بإرغام الطرف التركي على الانسحاب منها، تاركًا المحافظة لعشائها الأخير.

      

مركبة عسكرية مدرعة على الخط الحدودي قبالة بلدة عتيمة السورية (رويترز)
مركبة عسكرية مدرعة على الخط الحدودي قبالة بلدة عتيمة السورية (رويترز)

 

المونديال السوري

بالرجوع لشرح خريطة النفوذ الذي تم تفصيله قبل قليل، وبمحاولة المقارنة بين الصعوبات التي 
ستواجه روسيا والنظام السوري في استعادة السيطرة على كل منطقة على حدة، تبدو محافظة إدلب الاحتمال الأسهل من بينها جميعًا، وفي وقت غابَ فيه الرد التركي المعلن -على الأقل- على محاولات الهيئة إطلاق المعركة، واقتصار الدور على الأهالي في منعها، وبالنظر لاحتمالية تكرار الهيئة خرق اتفاق خفض التصعيد على جبهات الريف الجنوبي، أو جبهات بلدتي "الفوعة" و "كفريا" الشيعيتين المحاصرتين في إدلب، فإنه تتساوى احتمالات تعرض المحافظة صاحبة التجمع السكاني الأكبر للمعارضين لهجمة روسية شرسة، مع ممارسة تركيا الضغوط لمنع حدوث ذلك الهجوم، مدفوعة بهواجسها من تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الجدد إلى الحدود مع أراضيها، وبمراجعة سريعة لردود الأفعال التركية شبه المعدومة حيال الخروقات الروسية المتكررة لاتفاق وقف إطلاق النار في إدلب على طول العام الفائت، تنحسر الصورة بوضوح عن قدرة ردع تركية ضعيفة، فيما قد يكون ثمن إيقاف المعركة الأخير هو إنهاء سيطرة تحرير الشام على إدلب، وبجهود تركية بحتة.
     

مع سقوط ورقة درعا بعد سبع سنوات من عمر الثورة السورية، وترحيب الصحافة الإسرائيلية بعودة الأسد[8]، وانتظار القنيطرة والريف الغربي، مسقط رأس الثورة اليوم، مصيرًا مُشابهًا لما جرى مع ريفها الشرقي قبل أيام، في ضوء ما بات عادة روسية أثيرية في حسم تمرد مناطق المعارضة، وفي ضوء تقلص شهية الغرب لتغيير النظام في دمشق بسبب تعقيدات المشهد السوري، وفيما تتجه الأنظار إلى القمة المرتقبة بين واشنطن وموسكو لمعرفة مصير الكعكة السورية، يبدو الحديث عن الثورة السورية بين كثير من المعارضين وسط كل هذه الموجة من التغيرات والتداخلات، خافتًا أكثر من أي وقت مضى، على حساب الحديث عن حربٍ لطالما افتقر الثوار لاستقلاليتهم فيها في السنوات الأخيرة، قبل أن يخسروها اليوم بشكل شبه كامل، متحولين إلى معركة تستخدمُ فيها القوى الأجنبية المختلفة، المعارضين والكرد وفصائل تنظيم القاعدة، كمقاولين عسكريين لتمرير مصالحهم السياسية، أو تلك التي تحقق أمنهم القومي.

    

على هذا النحو، يرى كثيرٌ من المعارضين أن الفصائل العسكرية اليوم أصبحت عبئًا على الثورة السورية، وأن المعارضة السياسية -التي ما زالت تحظى بدعم أممي ملموس- قد تحظى بدور أكبر اليوم، وتجدُ نفسها أقل قيودًا وأكثر قدرة على الانخراط في عملية سياسية، في ضوء العديد من التوازنات العسكرية الكبرى على الأرض، والتي تحتمُ اللجوء إلى المسار السياسي كمخرج وحيد لما بات يُعرف بـ "الأزمة السورية" بدلًا من مصطلح "الثورة" الذي يخفت باستمرار في ظل كل ذلك.