شعار قسم ميدان

"الزحف نحو هرمز".. هل يطلق المضيق صافرة حرب إقليمية؟

ميدان - خامنئي وترامب ومعركة مضيق هرمز
اضغط للاستماع

  

"يزعم الأمريكيون أنهم يريدون وقف صادرات النفط الإيرانية تمامًا، وهم لا يفهمون معنى هذا البيان، لأنه لن يتم منع تصدير النفط الإيراني في حين يتم تصدير نفط سائر المنطق"
(الرئيس الإيراني – حسن روحاني)

   

يحب المحللون الغربيون الإشارة(1) إلى مضيق هرمز بوصفه "الخيار النووي الحقيقي" الذي تمتلكه إيران، لذلك فإن التلويح بغلقه يعد سببا كافيا لدق طبول الحرب مهما تكرر، وينطبق ذلك بشكل أخص على تلويح الرئيس الإيراني "حسن روحاني" بالأمر نفسه في بيان نشر على موقعه الرسمي في الثاني من (يوليو/تموز) 2018، وتسبب في حالة كبيرة من الجدل والذعر.

 

كان الرئيس الإيراني آنذاك في جولة أوروبية يائسة هدفت لإقناع بريطانيا وفرنسا، ومن خلفهما سائر أوروبا، بالتمسك بما تبقى من الاتفاق النووي، بعد أن انسحبت منه واشنطن رسميا في (مايو/أيار) 2018، وكان بيان الرئيس الإيراني رد فعل غير متوقع للرئيس "المعتدل" على تلميحات أمريكية بوقف صادرات النفط الإيراني بشكل تام، أما رد فعل "الحرس الثوري"، الجناح الأكثر تشددا داخل النظام، فكان متوقعا ومنسجما على كل حال، حيث سارع جنرالاته بالتقاط طرف الخيط ليُعرب قائد الحرس "محمد جعفري" عن رغبته في تنفيذ الخطة الذي أشار إليها الرئيس، والتي تتخلص ببساطة في جملة واحدة كان قائد الحرس أكثر جرأة في قولها صراحة: "إما أن يستخدم الجميع مضيق هرمز، أو لن يستخدمه أحد على الإطلاق".

  

بالنسبة لإيران، يعد فقدان عائدات النفط خيارا سيئا بما فيه الكفاية حتى في أكثر الأوقات استقرارا، لكن المشكلة الحقيقة أنه يأتي هذه المرة في ظل ظروف عاصفة غير مسبوقة، وضغوط بالغة على النظام الذي يعاني من محدودية الموازنة الحكومية والآثار المتزايدة لفاتورة الإنفاق على التدخلات الإيرانية الإقليمية، تزامنا مع احتجاجات شعبية متتالية من قبل الجمهور الإيراني لأسباب اقتصادية، وتراجع حاد للعملة المحلية التي فقدت 60 % من قيمتها خلال الشهور الأخيرة.

  

 

استدعى التهديد الإيراني رد فعل أميريكي متوقع أيضا، حيث لوحت(2) واشنطن باستعدادها لحماية الملاحة في المضيق الاستراتيجي باستخدام القوة العسكرية إن لزم الأمر، مضيفة المزيد من التوتر لرصيد علاقاتها شديدة التوتر بالفعل مع طهران، خاصة منذ انسحاب إدارة ترامب أحادي الجانب من الصفقة النووية الإيرانية في (مايو/أيار) 2018 وإعادة فرض العقوبات على العملاق الإقليمي، وما تلا ذلك -مؤخرا- من تصنيف الحرس الثوري الإيراني باعتباره منظمة إرهابية، لتعود إيران للتلويح من جديد بإغلاق المضيق.

 

لم تكن تلك المرة الأولى التي تلوح فيها إيران بهذا الخيار على كل حال، ففي 27 (ديسمبر/ كانون) الأول عام 2011 أطلق(3) نائب الرئيس الإيراني آنذاك "محمد رضا رحيمي" تهديدا مماثلا حين وعد بمنع شاحنات النفط من المرور عبر  المضيق حال فرضت العقوبات الاقتصادية قيودا على صادرات النفط الإيراني أو قطعتها، ومن أجل إضافة أجواء حربية حقيقية لتهديداتها، أطلقت طهران تمرينا عسكريا بحريا لمدة 10 أيام في المياه الدولية قرب المضيق، وجاء الرد الأمريكي على الفور بتحريك حاملة الطائرات "جون سي ستينس" من بحر العرب للخليج العربي، وصدرت الأوامر لحاملتي الطائرات "كارل فينسن" و"إبراهام لينكولن" بالإبحار للمنطقة والانضمام لقيادة الأسطول الخامس الأميريكي المُرابط في منطقة الخليج، وبدا أن العالم يستعد لحرب بحرية بين إيران والولايات المتحدة فوق المياه الخليجية.

  

غير أن تلك الحرب لم تحدث أبدا، حيث سارعت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما، التي لم تكن راغبة في خوض نزاع عسكري جديد في الشرق الأوسط، إلى احتواء التصعيد، وعلى الجانب الآخر، وعلى الرغم من توالي العقوبات الأميريكية والدولية على إيران بما في ذلك العقوبات على تجارة النفط، فإن طهران لم تُقدم على تنفيذ تهديدها بوقف الملاحة، وقد سلطت هذه الحادثة على وجه التحديد الضوء على الدينامية المستقرة للتفاعل بين واشنطن وطهران في الخليج، التي تقوم بشكل رئيس على توازن الردع أكثر من الرغبة في فرض تهديد عسكري حقيقي على الملاحة في أحد أكثر الممرات المائية حيوية في العالم.

 

توازن الردع

 

من الناحية الجغرافية، فإن مضيق هرمز هو ممر مائي ضيق في الخليج العربي بين الأراضي العمانية والإيرانية، لا يتجاوز(4) اتساعه عند أضيق نقاطه 29 ميلا، ما يجعله مؤهلا أن يوصف كواحد من أكثر نقاط المرور البحري اختناقا حول العالم. وعلى الرغم من ذلك، فإن الممر الضيق يستوعب نحو 30 إلى 35% من تجارة النفط البحرية في العالم، حيث يسافر ما يقرب من 17 مليون برميل من النفط عبر المضيق كل يوم، كما يجب على جميع سفن الشحن في الخليج العربي أن تمر عبره، ويشمل ذلك الشحن من جميع موانئ العراق والكويت والبحرين وقطر، ومعظم الموانئ في الإمارات العربية المتحدة، وبعض الموانئ الهامة في المملكة العربية السعودية، وبالتالي، فإن التهديدات التي يتعرض لها المضيق، وبصرف النظر عن واقعيتها، تؤثر بشكل جذري على الثقة في الأسواق، لأن كل مستوردي النفط أو الغاز الطبيعي في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، يعتمدون على المرور الآمن للشحن عبر المضيق.

  

ورغم أن إيران اعتادت منذ تأسيس ما يعرف بالـ"الجمهورية الإسلامية" على إبراز قواتها العسكرية في الخليج، بداية من حربها ضد ناقلات النفط العراقية في الثمانينيات، مرورا بمناوشاتها المتكررة مع البحرية الأمريكية، فإن طهران لم تقدم في أي وقت على محاولة إغلاق المضيق بالكامل رغم أنها طالما جهرت بقدرتها على فعل ذلك، فرغم إدراك إيران للأهمية الجيوسياسية له لقربها من المضيق، وسعيها الدائم لتعزيز ترسانتها من الصواريخ المضادة، فإن إستراتيجية طهران الدفاعية لم تتضمن أبدا غلق المضيق بشكل فعلي، بقدر ما اعتمدت على توسيع عواقب أي عمل عسكري ضدها عبر التهديد بإشعال الفوضى في أسواق النفط العالمية، وكانت هذه الإستراتيجية فعالة للغاية، حيث مكنت إيران من رفع تكلفة أي عمل عسكري فعلي ضدها أو حتى احتماليته.

  

لكن تلك الإستراتيجية لم تخل من مشاكل كامنة(5) على الجانب الآخر، أبرزها أن تسويق عملية إغلاق أحد أكثر المضايق حيوية للعالم لا يمكن بيعه كإجراء "دفاعي"، وهو أمر إن حدث كفيل بأن يوحد العالم في وجه طهران، في الوقت الذي تراهن فيه الحكومة الإيرانية على إبقاء أوروبا في صفها، ودفع زبائنها الآسيويين للتمسك بأكبر قدر من حصصهم من النفط الإيراني في مواجهة التهديدات الأميركية المتواصل بفرض العقوبات.

   undefined

  

رغم ذلك، فإن قدرة إيران على تنفيذ تهديداتها حتى في السيناريوهات الأكثر تطرفا وخطورة كانت دوما موضع تشكيك كبير، ووصفت(6) من بعض المحللين الغربيين بأنها «جعجعة فارغة» حد تعبيرهم، ويستند هذا التشكيك بشكل رئيس للفوارق الضخمة والمعروفة في القدرات بين القوات البحرية الأميركية والإيرانية، فرغم امتلاك إيران لسلاحين بحريين مختلفين هما بحرية الجيش والبحرية التابعة للحرس الثوري، والأخيرة هي المسؤولة عن الانتشار والعمليات العسكرية في مياه الخليج بشكل أساسي، فإن تلك القدرات تبقى محدودة جدا بالمقارنة بالبحرية الأمريكية الضخمة وأساطيلها المنتشرة في محيطات العالم وممراته المائية، حتى بمقارنة البحرية الإيرانية مع الأسطول الخامس الأمريكي فقط المرابط في العاصمة البحرينية، المنامة، الذي يتألف من أكثر من 20 سفينة كبيرة على الأقل، مع عشرات الوحدات الأصغر حجما المدعومة بأسراب من الطائرات المقاتلة، و15 ألف مقاتل تكمن مهمتهم الرئيسة في عدم السماح بأي انقطاع لتدفق النفط في الخليج.

   

وللتغلب على هذه الفوارق الكبيرة في الكفاءة القتالية والتقنية، تعتمد(7) البحرية الإيرانية على وحدات أصغر حجما وأكثر قدرة على المناورة، وتعتبر امتدادا للعقيدة القتالية الإيرانية التي تركز على الحروب غير المتماثلة أمام قوى أكثر تفوقا، وهي تقنية يحب الأمريكيون وصفها بـ "حروب العصابات البحرية"، وتشمل الاعتماد الرئيس على زوارق الهجوم الصغيرة وشديدة الصغر المحمَّلة بأسلحة تقليدية، إضافة للصواريخ المضادة للسفن والألغام البحرية.

 

تعد الزوارق الهجومية السريعة جزءً من سلاح البحرية التقليدي، لكن إيران تمتلك في الوقت نفسه زوارق أصغر بكثير تستخدمها بحرية الحرس الثوري، وهي الزوارق التي اكتسبت شهرة واسعة في (يناير/كانون الثاني) 2008 عندما استخدمت في مناوشة سرب من ثلاث قطع بحرية أمريكية أكبر حجما، ولكن الاستفادة من هذه الزوارق في تعطيل الملاحة في المضيق يتطلب استخدامها إما بشكل مفاجئ في أسراب من أجل التغلب على أي دفاعات على متن السفن الكبيرة، أو حزمها بالمتفجرات وتحويلها لزوارق انتحارية، وقد أشارت ألعاب الحرب الأمريكية إلى أن تكتيكات الانتحار قد تشكل خطرا على السفن الحربية الضخمة، فضلا عن ناقلات النفط العملاقة التي تحاول المناورة في مياه المضيق المزدحمة، رغم أن الحجم الكبير للناقلات العملاقة والتدفق المائي الذي تولده خلفها يوفران لها قدرا من الحماية حتى مع افتقارها للقدرات الدفاعية.

 

بخلاف الزوارق الصغيرة، تمتلك إيران ترسانة ضخمة من الصواريخ المضادة للسفن، وهي ترسانة يغلفها نفس القدر من الغموض والإبهام الذي يميز برنامج إيران الصاروخي بأكمله، ويعتقد أن بعض تلك الصواريخ الإيرانية صنعت أساسا في الولايات المتحدة وورثها النظام الإيراني عن نظام الشاه، وقام باستخدامها إبان الحرب العراقية الإيرانية، ومنذ ذلك الحين، بدأت إيران أيضا في نشر صواريخ صينية أبرزها النسخة الصينية من صواريخ "ستيكس" المعروفة باسم "سيلك وورم"، إضافة لصواريخ  "سي – 801" و "سي – 802" التي مررتها إيران لحزب الله اللبناني واستخدمت في ضرب السفينة الحربية الإسرائيلية "إن إس حانيت" قبالة الساحل اللبناني أثناء الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان في صيف عام 2006.

  

undefined

    

تتميز هذه الصواريخ بقدرات متوسطة نسبيا، وهي قادرة على حمل رؤوس متفجرة يصل وزنها لـ 300 كجم، ورغم أنها قد لا تكون كافية في معظم الأحيان لتعطيل سفينة ضخمة بشكل كلي، فإن إطلاق هذه الصواريخ عبر البطاريات المتحركة في الجزر التي تسيطر عليها إيران في الخليج، مثل "قشم" و"سيري" و"أبو موسى"، سوف يوفر هامش مناورة محدود للسفن بسبب قرب المسافة. ويبقى خيار إيران الأخير لتعطيل الملاحة في المضيق هو استخدام مخزوناتها الضخمة من الألغام البحرية التي تعتبر سلاحا رخيص التكلفة وسهل النشر، ورغم أن طهران من غير المرجح أن تكون قادرة على نشر حقل مكثف لا يمكن اختراقه من الألغام البحرية دون لفت انتباه الوحدات البحرية الأميركية، إلا أنه من المرجح أيضًا أن تكون قادرة على نشر حقول ألغام صغيرة ومتفرقة نسبيا وتعتمد على الفرص العشوائية لارتطام السفن ببعض هذه الألغام.

  

سيكون ذلك إن حدث أكثر من كاف لتحقيق حزمة أهداف إيران، ففي حرب الألغام غالبا ما يكون الهدف نفسيا(8) في المقام الأول، حيث لا يتطلب الأمر أكبر من ارتطام سفينة واحدة بلغم بحري من أجل رفع أسعار النفط العالمية، وفرض كلفة عالية على عمليات التأمين البحري بما لا يتناسب مع حجم الخطر الحقيقي، فضلا عن الفترة الطويلة "أسابيع على الأقل إلى أشهر" التي تتطلبها عملية إزالة الألغام من المضيق.

  

ورغم ذلك، فإن قدرة إيران على إغلاق المضيق عسكريا تبقى محدودة الزمن في أفضل الأحوال، وفي نهاية المطاف سيكون التفوق البحري النوعي لواشنطن كفيلا باستعادة زمام السيطرة، فضلا عن أن سيناريو التدخل للإطاحة بالنظام بشكل كلي لن يكون مستبعدا في تلك الحالة، حيث لا تزال إيران تذكر بالتأكيد واقعة (أبريل /نيسان) عام 1988، حين أغارت(9) القوات الأمريكية على أسطول العمليات الإيراني كرد فعل على إصابة فرقاطة أمريكية بلغم إيراني، قبل أن تطلق سفينة بحرية أمريكية متمركزة في الخليج صاروخا باتجاه طائرة مدنية إيرانية كان متجهة من "بندر عباس" إلى دبي مما أدي لمقتل 290 شخصا كانوا على متنها، ويعد هذا مكمن الخطر الحقيقي في استراتيجية الردع الإيرانية، وهو أنها تبقى ناجحة فقط حتى اللحظة التي تجد طهران فيها نفسها مضطرة لتفعيلها، وفي لحظة إشعال إيران للمضيق فعليا فإن إستراتيجيتها تكون قد فشلت بالفعل –مع كل العواقب الوخيمة المحتملة لهذا الفشل- لأنها ستكون قد عبرت توازن الردع، ولن يكون أمام العالم الكثير ليخسره إذا توقفت تجارته بالفعل، بينما ستكون طهران قد قدمت له، ولواشنطن تحديدًا، صك مواجهتها عسكريًا بالقوة القصوى وبلا عواقب دولية من أي نوع على الأرجح.

 

تصفير النفط

تتسبب تلك التوازنات الدقيقة في خطة الردع الإيرانية، وما تحملها من خطر على النظام الإيراني نفسه، في دعوات متتالية في الأوساط الغربية لتجاهل التهديدات الإيرانية المتكررة بقطع الملاحة كما ذكرنا، فرغم أن المضيق يبقى الورقة الإستراتيجية الأكبر والأخطر في يد النظام الإيراني، فإنه لن يستخدمها ما لم يصل لحالة واضحة من اليأس، ولكن في الوقت الذي تراهن فيه إدارة ترامب وحلفاؤها على أن مزيدا من الضغط الخارجي وحرمان النظام من عائداته الاقتصادية تزامنا مع الاحتجاجات الداخلية التي يتعرض لها سوف يقوده للانهيار، فإنها لا تحسب بشكل صحيح على الأرجح ما الذي يمكن لنظام مثل إيران أن يفعله إذا تم دفعه فعليا لحافة الانهيار المستهدفة من كل تحالف "أميركا" وأعوانها.

  undefined

 

قبل ذلك، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها تستهدف قطع صادرات النفط الإيراني بحلول (نوفمبر/تشرين الثاني) القادم، ويعني ذلك بالضرورة أن واشنطن سوف تمارس ضغوطها على حلفائها للتخلي عن استيراد النفط من إيران، خاصة حلفاء واشنطن في آسيا: "الهند" و "كوريا الجنوبية" و "اليابان" على وجه التحديد، وهو تكتل يستورد(10) مجتمعا قرابة 40% من النفط الإيراني، ويبدو أن أميركا تهدف في نهاية المطاف لتقليص حصة إيران السوقية من 2.8 مليون برميل يوميا في الوقت الحالي إلى أقل من مليون برميل يوميا بحلول الشهر المذكور.

 

لا يعد ذلك الانخفاض الدرامي المستهدف أمريكيًا – خلال فترة قصيرة – مجرد عقوبات اقتصادية على النمط الذي اعتادته طهران، فبخلاف سياسة إدارة أوباما التي استخدمت العقوبات بشكل تدريجي وجراحي في محاولة لتعديل سلوك إيران، يبدو أن سياسة بيت ترامب الأبيض تهدف لشن هجوم اقتصادي(11) كامل يهدف في نهاية المطاف للإطاحة بالحكومة الإيرانية، وهو جهد يتلاءم مع باقي سياسات أمريكا منذ صعود إدارة ترامب، وعلى الأخص مع التغييرات التي أجراها في إدارته مطلع العام الحالي بتعيين رئيس الاستخبارات السابق "مايك بومبيو" كوزير للخارجية، و"جون بولتون" كمستشار للأمن القومي، وكليهما من الصقور المناهضين لطهران، وبالأخص بولتون الذي يحمل وجهة نظر راسخة حول حتمية تغيير النظام الإيراني عبر(12) عنها في مقالاته المكتوبة منذ أكثر من عقد، توجه جعل منه أحد الضيوف المحببين لمنظمة" مجاهدي خلق"، أبرز جماعات المعارضة الإيرانية في الخارج، التي حضر أحد مؤتمراتها في باريس خلال العام الماضي قبل أشهر من توليه منصبه، واعدا في كلمته أن نظام ثورة الخميني لن يستمر حتى عيد ميلاده الأربعين، وأنهم سيحتفلون في طهران بسقوط النظام في عام 2019.

 

بصعود بولتون لمنصبه المرموق في الإدارة الأميركية، يبدو أن أمانيه في الإطاحة بالنظام الإيراني تحولت لخطط رسمية للإدارة الأمريكية كاملة ووجدت هوى لدى ترامب وحلفائه الإقليميين الجدد، فبخلاف الاحتجاجات المتواصلة التي يواجهها النظام الإيراني منذ مطلع العام الماضي، وهي احتجاجات دعمتها واشنطن علنا على لسان وزير خارجيتها الذي خرج منتقدا النظام الإيراني «الذي يوجه موارد بلاده للإنفاق على الأسد وحزب الله والحوثيين وحركة حماس» حد قوله، بخلاف ذلك فإن إيران تعاني مؤخرا من سلسلة غير مألوفة من الحوادث على حدودها الجنوبية الشرقية إثر تجدد الاشتباكات(13) مع جيش العدل، الذي ينشط في منطقتي "بلوشستان" و"سيستان" وفي المناطق الحدودية مع باكستان، وجيش العدل هو جماعة مناهضة للنظام الإيراني تأسست عام 2012 بدعوى الحفاظ على حقوق السنة في إيران، وفي الوقت الذي قامت فيه أعلنت السلطات الألمانية والبلجيكية والفرنسية عن اعتقال دبلوماسي إيراني وعدد من المعارضين الإيرانيين و«ثلاثة متآمرين» بشبهة تنفيذ تفجيرات في مؤتمر "مجاهدي خلق" في باريس، وهي اتهام يبدو مريبا بشكل خاص في وقت تسعى فيه طهران للحفاظ على أوروبا إلى جانبها.

  

 

تتماشى استراتيجية "بومبيو – بولتون" مع القناعة الراسخة لدى ترامب حول كون إيران هي أساس وجذر كل مشكلات الشرق الأوسط، ولكن تلك القناعة تصاحب مبدئًا آخر راسخا للإدارة وهو الإحجام عن ضخ أي موارد أمريكية من أجل التعامل مع أي من مشكلات المنطقة، بما يعني أنه في الوقت الذي ترغب فيه الإدارة في انتهاج سياسة حازمة ضد إيران، فإنها ترغب في أن تتحمل القوى الإقليمية الفاتورة الكاملة لهذه السياسة، وهو السبب في أن ترامب لم يدخر جهدا لإخفاء العلاقة بين سياسته تجاه إيران، وبين اتفاقه المزعوم، والمثير للجدل، مع السعودية لدفعها لضخ 2 مليون برميل إضافي من النفط يوميا من أجل إعادة التوازن للأسعار العالمية.

 

فخلال مقابلته مع شبكته التلفازية المفضلة "فوكس نيوز" مطلع الشهر الحالي، قدم ترامب تفسيره(14) الواضح لهذا الطلب، فمن وجهة نظر الرئيس الأمريكي كانت المقايضة التي يطرحها بسيطة للغاية ومنطقية، فمع تسخير الولايات المتحدة لجهودها لعزل المنافس الإقليمي للسعودية من خلال فرض حصار صادم على اقتصادها، فإن أحد الآثار الجانبية لذلك ستكون ارتفاع أسعار النفط، الذي سينعكس بدوره على أسعار البنزين بالنسبة للسائقين الأمريكيين، لذا على المملكة في المقابل أن تدفع فاتورة حماية الأمريكيين من مغبة الارتفاعات المتوقعة في الأسعار، من خلال ضح المزيد من النفط لتعويض النقص المتوقع في إمدادات النفط الإيراني.

 

كان هدف السعودية، الذي تم الكشف عنه في اجتماع أوبك في يونيو/حزيران الماضي، هو تحقيق الاستقرار في الإنتاج والأسعار حول المستويات الحالية (حوالي 75 دولارا للبرميل)، وأشارت المملكة وحلفاؤها الخليجيون وروسيا آنذاك إلى أنهم سيرفعون الإنتاج بنحو مليون برميل في اليوم لتعويض نقص الإنتاج من فنزويلا وإيران، وقامت المملكة بالفعل بتحمل الحصة الأكبر من الإنتاجية المضافة، حيث زادت إنتاجها بمقدار 700 ألف برميل يوميا، لكن ترامب، مع ذلك، يبدو غير مرتاح بوضوح لمستويات الأسعار الحالية أو حجم الزيادات المعلنة، فرغم أن الولايات المتحدة اليوم تعد منتجا رئيسا للنفط، إلا أنها أكبر مستهلكي النفط العالمي أيضا، ولطالما كان رؤساء الولايات المتحدة يفضلون(15)  أسعار نفط أكثر اعتدالا تميل لخدمة مصالح المستهلكين/منتخبيهم في المقام الأول، مع الحفاظ على الحد الأدنى من مصالح المنتجين، ويدرك ترامب أن هؤلاء المستهلكين هم من يعانون بشكل حقيقي من ارتفاع الأسعار اليوم تزامنا مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس أواخر العام الحالي، وهو أمر بإمكانه أن يؤثر على حظوظ الجمهوريين في الولايات المتأرجحة.

   

undefined

 

تكلفة البنزين في الولايات المتحدة بنسبة 60% تقريبا، منذ موجة التصاعد في أسعار النفط في (فبراير/شباط) 2016، وصولا لثلاثة دولارات للغالون، ومع معدل استهلاك للبنزين يبلغ 143 مليار غالون سنويا، فإن الإنفاق السنوي على البنزين في الولايات المتحدة ارتفع بمعدل 157 مليار دولار سنويا، وبحسبة أبسط يمكننا القول أن كل دولار إضافي في سعر برميل النفط يكلف المستهلكين الأمريكيين ثلاثة مليارات دولار سنويا، ويقدر الخبراء الأمريكيون تأثير ارتفاع أسعار النفط على المستهلكين الأمريكيين بتأثير زيادة ضريبية قدرها 1.6 تريليون دولار خلال عشر سنوات، وهو رقم ضخم جدا خاصة إذا قورن بحجم التخفيضات الضريبية لإدارة ترامب والتي تقدر بـ1.1 ترليون دولار خلال الفترة نفسها، وفي حين أن التخفيضات الضريبية ذهبت فوائدها في الغالب للأفراد في نطاقات الدخل العليا، فإن عبء أسعار البنزين المرتفعة سيشعر به معظم الأفراد من ذوي الدخول المنخفضة لأنهم ينفقون نسبة أعلى من دخلهم على الوقود، وهم بطبيعة الحال معظم الأمريكيين.

 

وكما تخبرنا فترة عامين قضاها ترامب في منصبه، فإن الرئيس الأمريكي يدير سياسته الخارجية بما يخدم موقفه تجاه أزماته الداخلية بشكل كبير، وفي الوقت الذي يرغب فيه ترامب ومعاونوه في إثبات أنفسهم بسياسة حازمة تهدف للإطاحة بالنظام الإيراني في نهاية المطاف، لا يرغب ترامب أيضًا في دفع التكلفة السياسية والاقتصادية لمثل هذا التدخل، وهي تكلفة يظن أن المملكة العربية السعودية ستكون على استعداد لتحملها بترحاب كبير.

 

معركة الرهانات

لكن في هذه المرة بالذات، فإن هناك شكوكا لا يمكن تجاهلها حول مدى قدرة السعودية على الوفاء بمتطلبات صفقة ترامب التي توصف اليوم بأنها تحد(16) لأساسات السوق، ففي حين أن المملكة أكدت في أكثر من مناسبة امتلاكها لقرابة 2 مليون برميل يوميا من الطاقة الاحتياطية لاستخدامها من أجل ضبط الأسواق، يؤكد(17) خبراء الصناعة أن أكبر عضو في "أوبك" يمكن أن يرفع الإنتاج بنحو مليون برميل يوميا لـ 11 مليون برميل يوميا في أقصى الأحوال ولتلبية طلب قصير الأمد فقط وليس لفترة طويلة ممتدة، وأن المملكة ربما تكون بحاجة إلى عام على الأقل لتكون قادرة على مواصلة الإنتاج بمستويات تقترب من 12 مليون برميل يوميا.

  

حتى مع افتراض أن السعودية ستكون قادرة على ضح مثل هذا الرقم، متجاهلة مصالحها الخاصة إرضاءً لحليفها الأمريكي، فهو رقم يكفي بالكاد لتعويض الفاقد المتوقع في صادرات النفط الإيراني، ويعني ذلك أن السوق العالمي سيُترك دون أي طاقة أمان احتياطية لتلبية الارتفاعات الطارئة في الطلب، بما يعني أن أي نقص في الإنتاج العالمي لأي سبب سيؤدي لرفع الأسعار بوتيرة عالية، حتى مع استبعاد سيناريو حدوث افتعال إيران للاضطرابات في مضيق هرمز، وقد كان محافظ إيران في "أوبك" "حسين كاظم بور أردبيلي" واضحا حين حذر من أن سياسات ترامب ستدفع أسعار النفط إلى مائة دولار للبرميل، قائلا أن تلك نتيجة متوقعة لمحاولات منع ثالث أكبر منتج للنفط في أوبك من الوصول إلى الأسواق العالمية.

 

 

لكن ترامب يبدو عازما على المضي قدما في خطته لحصار النظام الإيراني، معتمدا على قدرته على استنزاف السعودية حتى آخر قطرة نفط وابتزاز قادتها حتى آخر دولار يملكونه، وهو استنزاف وابتزاز يبدو أن المملكة ترحب بهما، ويبدو أن مستشارو الرئيس الأمريكي مقتنعون بشدة بسيناريو الحصار الاقتصادي، مستلهمين تجربة الحصار الذي فرضته بريطانيا على إيران عام 1951، ضمن الخطة الشهيرة المعروفة باسم "أجاكس" التي هندستها واشنطن ولندن للإطاحة بنظام "محمد مصدق" الشعبي الديمقراطي واستعادة ديكتاتورية الشاه، لكن ما ينساه مستشارو ترامب غالبا أن نظام "الثورة الإسلامية" المعادي لواشنطن نفسه لم يكن سوى إحدى النتائج طويلة الأمد للتدخل الأمريكي وهندسة واشنطن لذلك الانقلاب.

 

ولحسن الحظ، وربما لسوئه، فإن للعالم بأسره، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، تجربة سابقة حول ما يعنيه سقوط النظام في إيران بالنسبة لأسعار النفط، فإبان أحداث ثورة عام 1979، فقد(18) السوق 3.8 مليون برميل يوميا من النفط الإيراني لمدة ثلاثة أشهر كاملة، بما يعادل 150 مليون برميل خلال تلك الفترة مجتمعة، وعلى الرغم من زيادة الإنتاج الخارجي بمقدار 1.8 مليون برميل يوميًا لتعويض الخسارة، فإن صافي الخسارة للعالم كان 150 مليون برميل من النفط. وشاهد العالم من جديد طوابير الأمريكيين في محطات الوقود، فضلا عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تعتمد اليوم على النفط الإيراني، فإن التداعيات الاقتصادية لسحب النفط الإيراني سوف تدوي في جنبات الاقتصاد العالمي كله بما في ذلك أمريكا نفسها.

 

إضافة لذلك فهناك الحقيقة التي يعيها الجميع اليوم جيدا، وهي أن النظام الإيراني اليوم لا يشبه نظام "مصدق"، أو حتى نظام الشاه، وخلف وجهه الديمقراطي يحمل أكثر المؤسسات تشددا في أي نظام سياسي، وقد تم تصميم محاولات إيران الأخيرة للانفتاح على العالم على توازن دقيق بين المؤسسات العسكرية والدينية والمتشددة وبين السياسيين البراغماتيين في الرئاسة والحكومة، وأدى فشل الصفقة النووية الإيرانية لتفاقم الانقسامات بين المعسكر الإصلاحي الذي ينتمي إليه الرئيس روحاني وبين المتشددين، ولكن منع إيران من الوصول للأسواق العالمية ربما يوحدهم(19) من جديد على سياسات أكثر تشددا.

 

وطالما لم تصل العقوبات الأمريكية إلى المرحلة التي تشكل تهديدا وجوديا للنظام الإيراني، فإنه على الأرجح لن يقدم(20) على استفزاز العالم بتنفيذ تهديداته بقطع طرق شحن النفط، وبدلا من ذلك سوف يستغل الحصار الأمريكي لدفع البلاد لسياسات أكثر تشددا وتوحيد شعبه في مواجهة أمريكا واستغلال الأزمة من أجل تجديد شرعيته وقمع المعارضة الداخلية، رغم أن الأزمة الاقتصادية من المرجح أن تفرض قيودا على قدرة إيران على دعم حلفائها الخارجيين، أما حال وصلت الضغوط للمرحلة التي تشكل تهديدا وجوديا للنظام، فإن نظاما مثل نظام "الثورة الإسلامية" لن ينفجر ذاتيًا قبل أن يشعل النيران في المنطقة كلها على أرجح الاحتمالات وأكثرها بداهة، وحينها سيكون إشعال مضيق هرمز والصواريخ التي ستمطر سماء السعودية وإسرائيل كخيارات إيرانية انتحارية مرجحة هي أدني الأخطار التي ينبغي على العالم أن يستعد لمواجهتها، أدناها في قائمة أخطار ستعصف بالمنطقة حتمًا.

المصدر : الجزيرة