شعار قسم ميدان

هذا ما ينتظر العالم بعد حرب أميركا والصين التجارية

midan - Trump

في منتصف شهر (أغسطس/آب) عام 1971، وبشكل سري، اصطحب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وزير خزانته "جون كونالي" و14 شخصا من أقرب مساعديه في اجتماع مغلق في منتجع "كامب ديفيد" بريف ولاية "ماريلاند". كان الاجتماع سريا للغاية ولم يُسمح للحضور بمناقشة تفاصيله مع أي مؤسسة رسمية أخرى، بما في ذلك وزارة الخارجية نفسها، وبعدها أعلن نيكسون بدون التشاور مع حلفاء واشنطن قرارات وإجراءات شكلت صدمة للاقتصاد العالمي.

     

من أبرز تلك القرارات فرض تعريفة جمركية على جميع الواردات للولايات بنسبة 10%، وإنهاء تحويل الدولار إلى ذهب، وعُرفت حزمة القرارات تلك فيما بعد بـ "صدمة نيكسون" (Nixon Shock)، وهي صدمة هدفت إلى تقليل العجز التجاري مع كل من اليابان وألمانيا تحديدا، حيث رأت إدارته أن هناك تلاعبا بالعملة من قبلهما وهو ما يسبب هذا العجز، حتى إن الكونغرس كان قد أصدر تقريرا أوائل الشهر المذكور نفسه يوصي فيه بتخفيض قيمة الدولار لحمايته مما وصفه بـ "أسعار المتلاعبين الأجنبية" (1).

     

وقتها حدثت اعتراضات شديدة من قِبل حلفاء الولايات المتحدة في باريس وبون وطوكيو على السياسة التجارية الحمائية الجديدة، لكن نيكسون -الذي كان يعرف القليل ويهتم بدرجة أقل بالعلوم الاقتصادية- لم يستجب لغضبهم، ووضع نصب عينيه هدفا واحدا هو: انتخابات عام 1972، التي فاز بها قبل أن يترك بلاده لعقد كامل من الركود التضخمي (نمو اقتصادي ضعيف وبطالة عالية) (2)، ولذلك، يبدو الآن شبيها بما حدث وقتها، ويبدو على الأرجح أن هناك نيكسون آخر يجلس خلف المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.

     

(إعلان نيكسون للتغييرات الكبيرة في السياسة الاقتصادية)

       

مع وصول عقارب الساعة إلى 12:01 صباح يوم السادس من (يوليو/تموز) الحالي بتوقيت الساحل الغربي، كانت حرب تجارية قد بدأت رسميا بين أكبر اقتصادين في العالم: الولايات المتحدة والصين. حيث تابعت إدارة ترامب تهديدها بفرض تعريفات جمركية على المنتجات الصينية بقيمة 34 مليار دولار، ولم تمض دقائق حتى انتقمت الصين بفرض تعريفة مماثلة بنسبة 25% على 545 منتجا أميركيا بقيمة إجمالية قدرها 34 مليار دولار أيضا (3).

     

قالت وزارة التجارة الصينية في بيانها إن الولايات المتحدة "شنت أكبر حرب تجارية في التاريخ الاقتصادي حتى الآن"، ورفعت بكين قضية ضد واشنطن أمام منظمة التجارة العالمية (WTO)، في حين لم يُبد ترامب أي علامات على التراجع، ففي اليوم السابق على تنفيذ تلك التعريفة، قال أثناء وجوده على متن طائرة الرئاسة إن الموجة الأولى من التعريفة الجمركية سيتبعها على الفور تعريفة على السلع الصينية بقيمة 16 مليار دولار أخرى (4).

    

ذهب ترامب أيضا إلى ما هو أبعد من ذلك حينما هدد الصين بفرض تعريفات جمركية تصل إلى نصف تريليون دولار حال ردها عليه بتعريفات انتقامية، إلا أن الصين ردت بتهديدات أخرى مماثلة معلنة عدم تراجعها عن حماية مصالحها، مطلقة العنان لحملة إعلامية ضد ترامب، من أبرزها ما قالته صحيفة "تشاينا ديلي" (China Daily) الناطقة باللغة الإنجليزية، والتي تديرها الدولة، بأن "إدارة ترامب تتصرف كأنها عصابة من القتلة بابتزازها الدول الأخرى، خاصة الصين" (5).

   

لم تكن تلك التعريفات على ضخامتها بدعا من طبيعة العلاقات التجارية بين البلدين منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض وحتى منذ ترشحه للرئاسة، ففي إعلانه الترشح عام 2015 (6) ذكر الصين في خطابه 21 مرة، معتبرا أنها "تأخذ وظائف الأميركيين"، و"تغتصب الاقتصاد الأميركي" حد تعبيره. وخلال حملته الانتخابية استعان أيضا باسم الصين مرارا في خطاباته ليلهب مشاعر الناخبين، معلنا خطته لإعادة التفاوض بشكل كبير على العلاقات التجارية مع العملاق الآسيوي. وبالفعل لم يتأخر كثيرا بعد نجاحه عن بدء مشاكساته معه، وهي مشاكسات طورت إلى قرارات عقابية كانت التعريفات الضريبية والجمركية المتبادلة قمة جبلها الجليدي فحسب.

      

undefined

     

صندوق طماطم

كعادة الحروب الاقتصادية، لم تقتصر الحرب المندلعة على رقعتي الولايات المتحدة والصين فقط، وإنما امتدت لبلاد أخرى مؤهلة للانخراط بشكل أكبر في القتال التجاري، ووجهت تلك البلاد فوهات بنادقها الاقتصادية بشكل رئيس تجاه واشنطن رغم كونهم حلفاء رسميين لها، وفي حين كان ترامب يزهو بأن الحروب التجارية "جيدة وسهلة الفوز"، كانت تعريفات واردات الصلب والألومنيوم، التي فرضها أوائل (يونيو/حزيران) الماضي، بمنزلة فتح صندوق طماطم مليء بالحبّات الفاسدة.

     

بعدها وعلى الفور، قامت المكسيك بفرض تعريفات جمركية على سلع أميركية تتراوح نسبتها بين 20 إلى 25% وبقيمة ثلاثة مليارات دولار (7). ولم يتأخر رد الاتحاد الأوروبي كثيرا، ففي 20 (يونيو/حزيران) أيضا أعلن بأنه سيفرض رسوما جمركية على السلع الأميركية بقيمة 3.2 مليار دولار، وهو صراع أميركي أوروبي مرشح للتصاعد، خاصة بعد تهديد ترامب قبلها بفرض ضرائب على السيارات الأوروبية إذا ما رد الاتحاد الأوروبي على التعريفات الأميركية بأي حال (8).

    

لم تكن أوروبا والمكسيك وحدها بحال، ففي اليوم التالي لرد الاتحاد الأوروبي، قالت وزارة الاقتصاد التركية إنها ستفرض تعريفة جمركية بقيمة 267 مليون دولار على السلع الأميركية ردا على تعريفات الصلب والألومنيوم (9)، وتعد تركيا ثامن أكبر مصدر للصلب في العالم، واستحوذ السوق الأميركي على أكبر نسبة من صادرات الصلب التركية عام 2017. وفي اليوم التالي 22 (يونيو/حزيران)، جاء انتقام آخر من شرق آسيا هذه المرة حيث يقبع سادس أكبر اقتصاد على مستوى العالم "الهند"، إذ فرضت رسوما انتقامية، تنفذ في (أغسطس/آب) القادم، بقيمة 241 مليون دولار على 29 سلعة أميركية (10).

   

وفي الثاني من شهر (يوليو/تموز) الجاري، جاء الرد الكندي أكثر قسوة، كونها الأكثر تضررا من تعريفات ترامب حيث تمثل المُصدر الأول للصلب للولايات المتحدة، إذ بدأت كندا فرض تعريفات جمركية بقيمة 12.6 مليار دولار على البضائع الأميركية ردا على تعريفات الفولاذ والألومنيوم أيضا (11)، ولم تتخلف روسيا عن الحفل هي الأخرى، وأعلنت عن فرض تعريفات جمركية بقيمة 87.6 مليون دولار بنسب تتراوح بين 25 و40% على بعض السلع الأميركية (12).

   

جذور الحرب

بالعودة لرأس حربة الصراع التجاري "الصين"، ربما يخبرنا حجم العلاقات التجارية بينها وبين الولايات المتحدة الكثير عن جذور الصراع. فاعتبارا من عام 2015 قفزت الصين لتحتل مكان كندا ولتصبح أكبر شريك تجاري لواشنطن، بتبادل تجاري تخطى 500 مليار دولار، أي ما يعادل 15% من إجمالي التجارة الأميركية. ومنذ عام 1998 فقد أصبحت أميركا أكبر مستورد للسلع الصينية متجاوزة هونج كونج.

     

undefined

     

وفي ظل إصرار ترامب على خوض حرب تجارية بشكل ربما لم يسبق له مثيل في التاريخ الاقتصادي الحديث برمته، يبرز تساؤل بديهي حول رغبته وراء الضغط على الصين، أو ماذا يريد الرئيس الأميركي تحديدا منها، وعلى ما يبدو فإن ترامب لم يترك عقلية رجل الأعمال خارج البيت الأبيض، لتظل هي المسيطرة على منهجية تعامله مع الأطراف الدولية المختلفة. فمنذ ترشحه للرئاسة أعلن مرارا عزمه تقليص العجز التجاري بين بلاده والصين والبالغ قيمته 375 مليار دولار لصالح العملاق الآسيوي، مع رغبته المعلنة في الحصول على إمكانية وصول أكبر للشركات الأميركية إلى السوق الصينية الضخمة.

    

من ناحية أخرى، يسعى الرئيس الأميركي لإجبار الصين على التخلي عن إستراتيجية إجبار الشركات الأميركية على نقل التكنولوجيا الأميركية للصين كشرط للعمل على أراضيها، وربما يفسر إصرار الصين على تلك الإستراتيجية تصاعد الحرب التجارية بمرور الوقت، فتعتبر الصين دوما مسألة الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية أمرا غير قابل للنقاش، لرغبتها في تنفيذ إستراتيجيتها الكبرى نحو مساعدة اقتصادها على تحقيق قفزة من التصنيع القوي إلى الابتكار الصناعي، وخلق الوظائف المتدفقة من التقدم في الذكاء الاصطناعي والروبوتات والرقائق الدقيقة المتقدمة (13).

   

ففي المفاوضات التي جرت بين الجانبين مؤخرا، قدمت إدارة ترامب قائمة واضحة بالمطالب للحكومة الصينية شملت طلبًا أشبه بالأمر للصين بتخفيض عجز الميزان التجاري بما لا يقل عن 200 مليار دولار بحلول عام 2020، وهو ما يمثل خفضا بنسبة 60%، وأن تتوقف عن دعم شركات التكنولوجيا، وعن سرقة الملكية الفكرية الأميركية أيضا، وأن تخفض تعريفتها الجمركية على السلع الأميركية بحلول عام 2020، وألا تنتقم من الولايات المتحدة، بما في ذلك المزارعون الأميركيون، وأن تفتح السوق الصيني لمزيد من الاستثمارات الأميركية (14). كانت قائمة المطالب الأميركية شبه تعجيزية وغير تفاوضية، وكان الرد الصيني متوقعا بالرفض التام، ما أدى إلى تصاعد الأحداث بالشكل المذكور.

    undefined

 

بالنظر إلى تأثير الحرب التجارية على القوى المتصارعة فإن قائمة الخاسرين تتفوق على الرابحين من وراء تلك الحرب بطبيعة الحال (15). فتضم قائمة الخاسرين المزارعين الأميركيين، حيث تشكل التعريفات الصينية ضربة قوية لهم، خاصة مزارعي ولايات الغرب الأوسط التي يحتاج ترامب الفوز بها في انتخابات عام 2020، وذلك بسبب التعريفات المفروضة على فول الصويا، إحدى السلع الإستراتيجية الأميركية المصدرة للصين. وتضم القائمة أيضا شركات التكنولوجيا المتعاونة مع المصانع الصينية، حيث تستهدف التعريفات الأميركية المنتجات التكنولوجية المتطورة المصنوعة في الصين، ما يعني خسارة شركات مثل آبل ولينوفو بسبب ارتفاع تكاليف أو تعطل سلاسل التوريد، ويأتي على رأس تلك المنتجات شاشات التلفاز الحديثة المسطحة التي تُقدّر الواردات الأميركية منها من الصين بنحو أربعة مليارات دولار.

   

وتضم قائمة الخاسرين أيضا شركات تصنيع السيارات الأميركية، بما في ذلك تسلا للسيارات الكهربائية، بسبب خطط الصين لفرض تعريفة جمركية على معظم السيارات الأميركية بأنواعها. وتنضم إلى القافلة الخاسرة أيضا عملاق الطيران الأميركي "بوينغ"، حيث تُعدّ الصين سوقا حاسما لطائرات الشركة، وستضر التعريفات الصينية بمبيعات بعض طائرات بوينغ الأكثر رواجا مثل طائرات الركاب 737.

     

ولن تتخلف شركات الأدوية العامة الأميركية عن الركب، فرغم أن التعريفات الأميركية تستهدف مصنعي الأدوية الصينيين، فالخاسر قد يكون الشركات الأميركية التي تصنع أدوية طبيعية مثل "Mylan NV". وتحجز الخنازير الصينية أيضا مكانا بارزا بالقائمة، حيث تعتبر الصين أكبر مشتر لفول الصويا في العالم، وهي الحبوب التي تُعدّ الطعام الأساسي للخنازير، وبالتالي ستؤدي رسوم فول الصويا إلى رفع التكاليف على مربّي الخنازير الصينية ومن ثم أسعار لحومها المستهلكة من قِبل 1.3 مليار إنسان. ويمتد الضرر لكوريا الجنوبية أيضا، حيث تبيع كميات هائلة من القطع والمكونات التي تدخل في المنتجات الصينية النهائية.

      

  

لا يقتصر الأمر على قائمة الخاسرين فقط، فنجد في قائمة الرابحين من الحرب مزارعي أميركا الجنوبية، حيث تعتبر البرازيل والأرجنتين المنافستين الرئيسيتين لمزارعي الولايات المتحدة في سوق فول الصويا والذرة، ومن ثم ستستغلان على الأرجح الفراغ المحتمل جراء استمرار التراشق الاقتصادي العنيف. ونجد أيضا أصحاب الأشغال المعدنية الأميركيين، حيث تستهدف الجولات الجديدة من التعريفات الأميركية عدة فئات محددة من الفولاذ والألومنيوم صينية الصنع، وبالتالي ستواجه هذه المنتجات رسوما بمقدار 50% للوصول إلى الداخل الأميركي، ما يعني زيادة أسعار تلك المنتجات في السوق المحلية وبالتالي انخفاض أسعار المنتجات الأميركية المصنوعة محليا أمامها عكس المعتاد.

     

وبطبيعة الحال فإن تأثير الحرب التجارية لن يقتصر على ما سبق فقط، وإنما ستصبح سلاسل التوريد العالمية برمتها تحت التهديد، ومن ثم ستزيد التكاليف على الأرجح على الشركات والمستهلكين على حد سواء، مما سيؤدي في غالب الأمر إلى ضرب أسواق الأسهم العالمية بموجات اضطراب متتالية. وعلى ما يبدو، فإن اعتقاد ترامب بأن الحرب التجارية سهلة الفوز هو ببساطة اعتقاد خاطئ تماما إن لم يكن للاستهلاك الإعلامي فقط، فالحروب التجارية من السهل دوما إشعالها، لكن من الصعب الخروج منها، فهي طويلة ومكلفة ونادرا ما يخرج منها أطراف فائزة، ومن الممكن إن استمرت -وهو أمر غير مرجح- أن تؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي بالكامل، أو على أقل تقدير إلى أزمة اقتصادية عالمية تفوق ما رأيناه سابقا بكل الأشكال الممكنة.