شعار قسم ميدان

من أبوظبي لواشنطن.. كيف تحولت "إريتريا" لسلاح أفريقي جديد؟

ميدان - أفورقي وترامب
اضغط للاستماع

    

في عام 2002 كان التصعيد الخطابي الأميركي يشير إلى أن واشنطن تتجه بالفعل نحو غزو العراق بشكل يقيني، وهو غزو لم يكن الحلفاء الأميركيون التقليديون في الشرق الأوسط راغبين في خوضه أو دعمه لأسباب مفهومة، يبدو أبرزها التكلفة الشعبية لمشاركة ودعم قوة أجنبية من أجل احتلال بلد عربي، حتى إن الدول الصغيرة مثل جيبوتي والتي كانت تستضيف آنذاك أكثر من 3000 جندي أميركي أبدت تحفظها حيال العملية العسكرية المنتظرة، إلا أن دولة واحدة فقط آنذاك كانت(1) تغرد خارج السرب باستمرار، وتسارع لتوظيف اللوبيات في الغرب من أجل إقناع واشنطن بإقامة قاعدة عسكرية لشن الحرب من على أراضيها، وكانت الدولة هي "إريتريا".

  

بوصفها دولة نصف مسيحية ونصف مسلمة، حديثة عهد باستقلال عن قوة أكبر منها بكثير هي إثيوبيا، وواقعة في محيط متخم بالأعداء والصراعات الحدودية، كان لدى "أسمرة" القليل لتخشاه حول تداعيات غزو العراق مقارنة بأي من جيرانها، بل إنها وجدت فيه فرصة واقعية للحصول على صك حماية من قوة عظمى عالمية، ومن أجل تحقيق هذا الغرض فإن إريتريا الفقيرة دفعت 50 ألف دولار شهريا لمدة عام كامل إلى شركة المحاماة "جرينبيرج تراوريج" -المرتبطة بزعيم مجلس النواب الأميركي آنذاك "توم ديلاي"- من أجل الترويج لاستضافة قاعدة عسكرية أميركية في إريتريا تستفيد من موقع البلاد الإستراتيجي على البحر الأحمر.

   

زعيم مجلس نواب أميركي سابق
زعيم مجلس نواب أميركي سابق "توم ديلاي"(رويترز)

   

على مدار تاريخها، لم تكن(2) إريتريا حليفا مفضلا أو مستساغا لواشنطن في أي وقت، بداية من الخمسينيات حين اقترحت أميركا وبريطانيا دمج المستعمرة الإيطالية السابقة مع إثيوبيا على غير رغبة الإريتريين، ولاحقا خلال الحرب الباردة حين دعمت واشنطن حليفها الإمبراطور الإثيوبي "هيلا سيلاسي" في قتاله ضد المتمردين الإريتريين، في موقف عدائي حافظت عليه أميركا حتى خلال السبعينيات والثمانينيات حين حكمت إثيوبيا بواسطة نظام ستاليني حليف للسوفييت، ورغم حدوث انفراجة نسبية في العلاقات مطلع التسعينيات حين قدمت إدارة كلينتون مساعدات مالية عسكرية للبلاد، فإن هذه الانفراجة انتهت بعد سنوات قليلة حين اندلعت الحرب مع إثيوبيا عام 1998، حيث قامت واشنطن بتعليق بيع السلاح إلى إريتريا مباشرة.

 

ونتيجة لهذا التاريخ من العلاقات المرتبكة، لم يقابل عرض القاعدة العسكرية الإريتري بترحاب كبير في واشنطن، لكنه أثار خلافا(3) واضحا بين الدبلوماسيين والعسكريين في إدارة الرئيس الأميركي "جورج دبليو بوش"، فمن ناحية كانت إريتريا بالنسبة إلى دبلوماسيي الإدارة الأميركية لا تزال حقلا نموذجيا لممارسة الدفاع السهل عن القيم الأميركية -مثل حقوق الإنسان والديمقراطية- في بلد هش وفي مواجهة نظام قمعي حوّل إريتريا إلى أحد أكثر بلدان العالم انعزالا، وفي السياق نفسه، فإن الدبلوماسيين الأميركيين اعتادوا النظر لإريتريا من عدسة العلاقات مع إثيوبيا، حليف واشنطن المفضل في شرق أفريقيا، وكان الحفاظ على علاقات واشنطن مع أديس أبابا -بعد انفصال إريتريا عن إثيوبيا مطلع التسعينيات- يتطلب بالضرورة تجميد العلاقات بشكل فعلي مع أسمرة.

 

في المقابل، كان العسكريون الأميركيون، وفي مقدمتهم وزير الدفاع حينها "دونالد رامسفيلد"، يرون أن الاضطرابات المتتالية في إثيوبيا تجعل إريتريا أكثر أهمية للمصالح الأميركية، فضلا عن موقعها الجغرافي على البحر الأحمر، ودورها كممر بين إثيوبيا واليمن، وأنها حاجز مهم أمام تدفق الأسلحة والمقاتلين بين الخليج والقرن الأفريقي، لكن، وكما بدا لاحقا، فإن نتائج المواجهة بين نسور السياسة وصقور الحرب الأميركيين لم تصب في مصلحة إريتريا في نهاية المطاف، لذا فقد دخلت العلاقات الأميركية الإريترية في سُبات طويل(1) انتهى إلى حالة واضحة من العداء بلغت ذروتها عام 2009، حين نجحت سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة "سوزان رايس" في دفع مجلس الأمن لفرض عقوبات ضد إريتريا تحت دعوى "دعمها للإرهابيين" في الصومال، وهو موقف حافظت عليه أميركا حتى منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2018، حين تدخلت بتوجيه من مستشار الأمن القومي "جون بولتون" لإقناع مجلس الأمن الدولي برفع العقوبات عن إريتريا، في خطوة بدت فيها واشنطن وكأنها تُعيد تأهيل أكثر أنظمة أفريقيا انغلاقا، مانحا أسمرة صك العبور إلى ملعب النظام الدولي بعد أكثر من ثلاثة عقود من العزلة الإجبارية.

  

وزير دفاع أميركي سابق
وزير دفاع أميركي سابق "دونالد رامسفيلد" (رويترز)

   

إخوة "أفورقي" الأعداء

منذ اللحظة الأولى لاستقلالها عن إثيوبيا، أدركت إريتريا جملة من الحقائق الجيوسياسية المعقدة التي ينبغي لها أن تتعامل معها، وفي مقدمتها هشاشتها الأمنية الكامنة، حيث خاضت البلاد منذ استقلالها ثلاث حروب مع إثيوبيا وجيبوتي واليمن، إضافة إلى إدراكها لمحدودية حجم مواردها الطبيعية والبشرية (بالكاد بتجاوز عدد سكان البلاد خمسة ملايين نسمة)، وهو ما جعل إريتريا دائما عرضة للأخطار من قِبل جميع جيرانها، خاصة إثيوبيا، وأخيرا فقد أدركت أسمرة أن جائزتها الكبرى تكمن في موقعها المميز على البحر الأحمر، وهي ذات الجائزة التي فقدتها إثيوبيا بعد تحولها لدولة حبيسة، ولذا كان البحر الأحمر نفسه هو مفتاح الإستراتيجية الأمنية التي وضعها نظام "أسياس أفورقي" من أجل البقاء.

 

فبعد أن أيقنت إريتريا أن الأبواب الأميركية ستظل مغلقة لوقت طويل، تحولت مباشرة لدول الشرق الأوسط من أجل إقامة التحالفات والحصول على المساعدات، حيث حصلت على عضوية الاتحاد الأفريقي عام 2004، قبل أن تصبح عضوا مراقبا في الجامعة العربية عام 2011، وفي غضون ذلك كانت أسمرة تسعى لجذب القوى شرق الأوسطية الكبرى لديارها عبر إغرائها بامتلاك موقع نفوذ قوي على البحر، مقابل الحصول على الموارد بما في ذلك كميات متباينة من النقد والأسلحة.

 

وخلال فترة قصيرة، نجحت أسمرة فيما يبدو في صناعة حزمة من العلاقات المثيرة للجدل مع عدد من الشركاء المتشاكسين والمتبايني المصالح في الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم مصر التي كانت راغبة في توسيع عمقها الإستراتيجي على البحر الأحمر وامتلاك ورقة ضغط ضد إثيوبيا، خصمها التاريخي في مياه النيل، إضافة إلى المملكة العربية السعودية، وقطر التي توسّطت لحل النزاع الحدودي بين إريتريا وجيبوتي حول جزيرة دميرة ورأس دميرة وقام بنشر قواتها على الحدود بين البلدين، وصولا حتى إلى إيران التي كانت مهتمة بتوريد الأسلحة إلى المتمردين الحوثيين في اليمن على الضفة المقابلة من البحر، وبالطبع كانت إريتريا في نظر دولة الملالي مرشحا مثاليا.

 

    

نتيجة لذلك، قامت(2) طهران وأسمرة عام 2008 بالتوصل إلى اتفاق حافظت الأولى بموجبه على وجود عسكري لها في "عصب"، تحت غطاء تجديد وحماية مصفاة النفط الوحيدة في إريتريا والتي يعود تاريخها للحقبة السوفيتية، وفي المقابل، تلقت أسمرة مساعدات نقدية ودعما عسكريا من طهران عبر قنوات رسمية وغير رسمية. وعلى سبيل المثال، قام بنك تنمية الصادرات الإيراني بضح 35 مليون دولار في الاقتصاد الإريتري عام 2009، في مكافأة على ما يبدو للبلاد على إعلان دعمها للبرنامج النووي الإيراني في العام المذكور نفسه.

 

بيد أن الوجود الإيراني بإريتريا لم يكن مرتبطا فقط بفتح قنوات اتصال وإمدادات مع الحوثيين الذين لم تكن علاقتهم مع طهران على ذلك القدر من الأهمية في ذلك التوقيت، ولكن العمليات الإيرانية في إريتريا كانت مرتبطة بشكل أوثق بهدف إستراتيجي لدى طهران وهو التحكم في مضيق باب المندب، وتوسيع نفوذ البحرية الإيرانية إلى ما وراء الخليج، وفتح خطوط إمداد لنقل الأسلحة عبر السودان، وأخيرا امتلاك وجود قوي في منطقة تتمركز بالقرب منها سفن البحرية لاثنتي عشرة دولة غربية بهدف مكافحة القرصنة في المحيط الهندي، وكذا بها القواعد الأميركية والأوروبية في جيبوتي بالقرب من عصب.

 

لم يكن من المستغرب إذن أن يُثير الوجود الإيراني المتنامي في إريتريا اهتمام أميركا والكيان العبري على وجه الخصوص، لكن أسمرة كانت مستعدة لمنح تل أبيب، حليفة واشنطن وأديس أبابا الأثيرة، ذات الامتيازات التي منحتها لطهران، وفي واقع الأمر فإنها كانت قد منحت تل أبيب تلك الامتيازات بالفعل من خلال منحها السيطرة على جزر أرخبيل "دهلك"، وتحديدا جزر "ديسي" و"دهوم" و"شومي"، وهي جزر تحوي أحواض سفن سوفييتية وظّفتها العاصمة العبرية لبناء قاعدة بحرية مصغرة خارج حدودها تُشغل من خلالها أحد أكثر مراكز التجسس تطورا في القرن الأفريقي.

 

     

كانت العلاقات العسكرية والاقتصادية المتنامية مع إسرائيل هي الطريقة التي قررت إريتريا أن تبرهن عبرها أن علاقتها مع إيران كانت علاقة براغماتية بحتة، وأنها لم تكن موجهة ضد الولايات المتحدة أو أي من حلفائها في نهاية المطاف، وكدليل على ذلك فإن أسمرة لم تجد غضاضة عام 2012 في السماح للدرونز الإسرائيلية بالإقلاع من أرخبيل "دهلك" لقصف(3) مصنع أسلحة سوداني يُزعم أن إيران كانت تستخدمه، ليصبح نظام "أفورقي" بطلا لأبرز المواجهات الإسرائيلية الإيرانية في شرق أفريقيا، بعد أن كان له السبق في منح الدولتين موطئ قدم في المنطقة منذ البداية.

 

بضاعة الخليج الرابحة

كانت تجارة النفوذ الجيوسياسي على البحر الأحمر إذن هي بضاعة إريتريا الرابحة للخروج من العزلة بعد أن قررت واشنطن دفعها جبرا إلى الظلام، ورغم أن أسمرة اختارت طريقة مثيرة للجدل لكسر العزلة عبر بيع القواعد العسكرية للراغبين، فإن طريقتها بدا وأنها نجحت في نهاية المطاف، خاصة مع قدوم الربيع العربي وتداعياته التي دفعت القوى الإقليمية للتزاحم نحو القرن الأفريقي، تزاحم لم تكن إريتريا مستثناة منه على كل حال، وهو ما يعني أن نظام العقوبات الأممي الذي يعتمد على دعم الدول الأعضاء كان يتداعى بشكل فعلي.

 

في واقع الأمر، وبالنسبة للكثير من حلفاء واشنطن قبل خصومها، كانت إريتريا منذ البداية مجرد لاعب سيئ وسط منطقة مليئة باللاعبين السيئين، أو ربما الأسوأ، ولم يكن هناك مبرر واضح لخصها بالعقوبات دون غيرها من جيرانها. فإذا كانت أسمرة تُتهم من قِبل واشنطن بدعم حركة الشباب الصومالية المرتبطة بتنظيم القاعدة، وهو دعم تقلّصت الأدلة حوله بشكل كبير بعد عام 2011، فقد كان الجيش الإثيوبي، حليف واشنطن الأهم في شرق أفريقيا، هو المسؤول(7) عن الفراغ الذي أدى إلى ظهور الحركة من الأصل، حين أقدم -بضوء أخضر أميركي- على غزو الصومال واحتلال مقديشيو عام 2006 لتدمير حكم اتحاد المحاكم الإسلامية الصومالي المعتدل زاعما ارتباطه بـ "القاعدة"، مما أخلى الميدان لظهور حركة الشباب التي لم تكن تحظى بشعبية كبيرة قبل الغزو الإثيوبي، لكنها بنت صعودها بفعل موجة الغضب العارم على الأعمال "الوحشية" الإثيوبية.

    

كانت أزمة هجرة الإريتريين الفارين من نظام
كانت أزمة هجرة الإريتريين الفارين من نظام "أفورقي" دافعا لجعل الاتحاد الأوروبي يقوم بدفع القوى لوقف موجات اللاجئين

  

بشكل مماثل، لم يكن سجل الجيش الكيني، حليف واشنطن الآخر وثاني أكبر جيش في شرق أفريقيا بعد الجيش الإثيوبي، لم يكن سجله أفضل حالا بعد أن اختار التدخل(8) في الصومال أيضا، وبرخصة أميركية مجددا، لملاحقة حركة الشباب إلى أن ثبت أن له تجارة وأعمالا مع الحركة في نهاية المطاف. وحتى من زاوية سجل إريتريا الحقوقي، فإنه لا يعد متفردا في السوء مقارنة بالتردي العام في أحوال حقوق الإنسان لجميع دول المنطقة، ما جعل تخصيصها بالعقوبات أمرا غير مفهوم في أدنى الأحوال، له دوافع سياسية خالصة على أرجحها.

 

ومع ذلك التآكل الرمزي لشرعية العقوبات، كانت أزمة هجرة الإريتريين الفارين من نظام "أفورقي" دافعا لجعل الاتحاد الأوروبي يقوم بدفع القوى التي تشتبك بحكم الواقع مع النظام الإريتري لوقف موجات اللاجئين عبر البحر المتوسط، حيث كانت إريتريا أكبر مصدر(9) للاجئين إلى أوروبا بين عامي 2014 و2016، وهو امتياز جديد فاز به نظام أفورقي على ما يبدو، وحَوَّله -على طريقة القذافي في ليبيا- إلى مصدر جديد للشرعية الدولية والدخل المالي. وفي عام 2015 وافق الاتحاد الأوروبي على حزمة مساعدات بقيمة 200 مليون يورو لإريتريا، مع وعود بتدريب الأجهزة الأمنية والقضائية على "مكافحة الاتجار بالبشر"، لكن الأمر في حقيقته يمكن تصنيفه على أنه "رشوة" أوروبية معتادة.

  

وفي الوقت نفسه، كان نظام "أفورقي" على وشك نيل جائزته الكبرى، حين دشن "التحالف العربي" -كما يُطلق عليه- بقيادة الإمارات والسعودية تدخله العسكري في اليمن في مارس/آذار عام 2015 بدعوى إيقاف الزحف الحوثي هناك، ومع اقتراب المعارك السعودية الإماراتية من "عدن"، ازداد اهتمام الدولتين الخليجيتين بدول القرن الأفريقي من أجل تأمين المدينة اليمنية الإستراتيجية، وقد قرر البلدان في البداية الاعتماد على جيبوتي، إلا أن الأمور لم تسر كما كان مخططا لها.

    

undefined

 

ففي ذلك الوقت، دب خلاف مفاجئ بين الإمارات وجيبوتي بسبب هبوط طائرة إماراتية بدون ترخيص في مطار جيبوتي الدولي، وللمفارقة فإن هذا الخلاف نشب في ظل أجواء مشحونة بين البلدين بسبب نزاع قانوني محتدم حول عقد لمحطة حاويات "دوراليه"، وهي أكبر ميناء للحاويات في أفريقيا، والذي كان يُدار في ذلك التوقيت من قِبل شركة "موانئ دبي العالمية"، الشركة التي تعتبر واحدة من أكبر أصول القوة الناعمة لدولة الإمارات، وانتهى الخلاف بقطع مؤقت للعلاقات الدبلوماسية بين جيبوتي والإمارات وطرد القوات السعودية والإماراتية من البلاد، ورغم استئناف العلاقات رسميا في وقت لاحق، فإن المياه بين جيبوتي والإمارات على وجه التحديد لم تعد أبدا إلى طبيعتها.

 

ومع ذلك، فإن الرياض وأبوظبي كان لديهما البديل الواضح، ولم يكن هذا البديل سوى إريتريا المنافس الإقليمي لجيبوتي، والتي تمتلك 150 كيلومترا من السواحل على البحر الأحمر، ونتيجة لذلك، وفي اليوم نفسه الذي قررت فيه جيبوتي طرد القوات الخليجية، التقى الرئيس الإريتري "أفورقي" مع العاهل السعودي الملك "سلمان بن عبد العزيز"، حيث تم إبرام اتفاقية للشراكة الأمنية بين إريتريا ودول الخليج، اتفاق حصل "أفورقي" بموجبه على المزيد من الراغبين الذين طالما سعى لجذبهم إلى أراضيه، أو إلى مياهه إن توخينا الدقة.

   

undefined

    

وكجزء من اتفاقية الشراكة المشار إليها، حصلت(10) دولة الإمارات على عقد إيجار لمدة 30 عاما للاستخدام العسكري لميناء عصب ومطار هناك، مع مدرج بطول 3500 متر يمكن لطائرات النقل الكبيرة الهبوط عليه بما في ذلك طائرات "سي 17 جلوب ماستر" الضخمة، امتيازات تطورت تدريجيا إلى منح الإمارات ترخيص بناء قاعدة عسكرية كاملة التجهيز تحولت إلى شريان الحياة للحرب السعودية الإماراتية في اليمن، بما يشمل نقل القوات والمعدات البرية وتحريك القطع البحرية.

 

أما في العاصمة أسمرة، فقد تولت الإمارات مهمة تطوير المطار الوحيد المتهالك ليصبح قادرا على استقبال مروحيات هجومية من طراز "أباتشي" تابعة لـ "قيادة الطيران المشتركة الإماراتية"، بالإضافة إلى مروحيات "تشينوك" و"بلاك هوك" المملوكة للحرس الرئاسي الإماراتي، وبالفعل قامت هذه الطائرات بتنفيذ طلعات هجومية فوق مضيق "باب المندب" انطلاقا من "عصب"، وجرى تدريب الطيارين الجدد في سلاح الجو اليمني في "عصب" أيضا، قبل نقلهم إلى قاعدة "العند" الجوية في عدن والخاضعة بدورها للسيطرة الإماراتية، كما قامت إريتريا بإرسال 400 من جنودها لدعم القوات الإماراتية في عدن، وفي المقابل حصل "أفورقي" على مبتغاه في صورة حزم مالية وتعهدات بمشروعات للبنية التحتية وحزم مخفضة للوقود.

  

لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فقد حرصت الإمارات على بسط أحبال نفوذها عبر منح مساعدات عسكرية للجيش الإريتري وتدريب بعض أفراده من القوات البرية والجوية، قبل أن تستفيد(11) أسمرة لاحقا من مساعدات وصفقات عسكرية مع روسيا والتشيك وحتى إيطاليا، وهي صفقات وضعتها من جديد على الخارطة الدولية وكسرت عزلتها بشكل فعلي، رغم بقاء العقوبات الأممية قائمة ولو بشكل اسمي تماما.

    

جنود من الجيش الإثيوبي (رويترز)
جنود من الجيش الإثيوبي (رويترز)

   

الذعر الأميركي: الصين

كانت الحرب في اليمن تذكرة عبور "أفورقي" الفعلية إلى النظام الدولي مرة أخرى، فرغم أن الوجود العسكري الإماراتي وجهود تسليح وتدريب الجيش الإريتري تعد انتهاكا فعليا لحظر تصدير السلاح المفروض على الدولة الأفريقية بموجب عقوبات عام 2009، رغم ذلك فإن الإمارات والسعودية ومن خلفهما الولايات المتحدة والعالم بأسره تواطئوا على ما يبدو على تجاهل ذلك الأمر تماما، في الوقت الذي كانت واشنطن تعيد فيه مراجعة حساباتها الأفريقية كاملة على خلفية سلسلة من التطورات المثيرة للجدل التي وقعت بشكل رئيس في جيبوتي المجاورة.

 

مثلها مثل إريتريا، كانت جيبوتي ونظامها الذي يقوده الرئيس "إسماعيل عمر غيلة" منذ أكثر من عشرين عاما، كانت قد فطنت للامتيازات الكبرى التي يجلبها الانتخاب الجغرافي، ما دفعها لفتح أبوابها منذ وقت مبكر أمام جيوش الشرق والغرب في مقابل المال والحماية، بداية من فرنسا والولايات المتحدة، ومرورا باليابان وإيطاليا، وليس انتهاء بالسعودية وحتى الصين.

 

لكن مناورة غيلة مع بكين على وجه الخصوص، وسماحه ببناء قاعدة عسكرية صينية على بعد أميال قليلة من مقر القيادة المركزية الأميركية في أفريقيا، كانت هي ما أثار انتباه الولايات المتحدة لمخاطر لُعبة جيبوتي بتأجير القواعد العسكرية إلى القوى المتناحرة بمن في ذلك خصوم واشنطن والقوى الغربية، خاصة مع اتهام(12) وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" للصين، في مايو/أيار المنصرم، باستخدام أشعة ليزر عسكرية لمناوشة طياريها المقاتلين فوق الأجواء الجيبوتية، وهو ما مثّل مؤشرا مبكرا على انتقال محتمل للصراع الأميركي الصيني إلى القرن الأفريقي.

 

    

أما الخطوة التي دفعت الأمور لنهايتها مع جيبوتي فيما يبدو كانت إقدام الدولة الصغيرة على إلغاء الامتياز الممنوح لشركة "موانئ دبي" لإدارة محطة الحاويات الرئيسة في جيبوتي بشكل مفاجئ في فبراير/شباط لـ 2018، ثم أبرمت جيبوتي بعد الإلغاء اتفاقا لتوسعة الميناء ومحطة الحاويات مع شركة سنغافورية تعد شريكا للعديد من الشركات الحكومية الصينية، وفي مقدمتها مجموعة التجار الصينيين التي تمتلك حصة في الميناء بالفعل. وقد حذر الجيش الأميركي علانية آنذاك من أن سيطرة الصين على الميناء يمكن أن تعرض الأمن القومي الأميركي للخطر، ورغم أن القيادة الجيبوتية أبلغت واشنطن أنها ليس لديها أي نية لتسليم الميناء للسيطرة الصينية، ظلت واشنطن قلقة من أن تراكم الديون الصينية على جيبوتي يمكن أن يدفعها لتسليم الميناء لبكين في النهاية، وهو ما دفع البعض إلى القول إن الولايات المتحدة ستكون أفضل حالا إن نقلت قاعدتها العسكرية إلى بلد أفريقي آخر في وقت قريب.

  

لم تقتصر المخاوف الأميركية على جيبوتي، فلم تكن الدولة قرن الأفريقية في الحقيقة أكثر من مجرد حلقة واحدة في إستراتيجية صينية يبدو أنها تثير ذعر الأميركيين إلى حد كبير، وغالبا ما يطلق عليها اسم إستراتيجية "الديون الصينية" أو "فخ الدين الصيني"، وتبدأ(13) اللعبة ببساطة مع قدوم الصين إلى إحدى الدول الفقيرة وذات الأهمية الإستراتيجية في أفريقيا أو آسيا، ثم تقوم بفتح جيوبها العميقة لتمويل مشروعات ضخمة للبنية التحتية في ذلك البلد مقابل ديون ضخمة، وحين تفشل الدول في سداد أو جدولة هذه الديون في نهاية المطاف، فإن الصين غالبا ما تقوم بالاستيلاء على هذه المشروعات وإدارتها بنفسها، ولاحقا تقوم بتطوير هذا الوجود الاقتصادي الناعم إلى وجود عسكري خشن لحماية مصالحها الاقتصادية المتوسعة.

 

وتعد أفريقيا بشكل خاص مرتعا خصبا لبكين لممارسة إستراتيجية الديون مع وفرة موارد القارة الطبيعية، وقلة مواردها المالية والتقنية، وحاجتها الشديدة إلى التنمية والإحجام الملحوظ للقوى الغربية عن استثمار المزيد من الموارد فيها، لدرجة أن مجلة إيكونوميست الاقتصادية البريطانية المرموقة وصفتها في عام 2000 بأنها "القارة التي لا أمل فيها"، لكن هذه النظرة الغربية بدأت تتغير مع توغل بكين المتسارع في إفريقيا لتصبح في عام 2016 الشريك التجاري الأكبر للقارة، متفوقة على الولايات المتحدة، ولتصبح الصين أيضا أكبر منشئ أجنبي للوظائف والمصدر الأول للاستثمار الأجنبي المباشر، فضلا عن وجود أكثر من 10 آلاف شركة صينية تعمل في القارة اليوم وتدر أكثر من 180 مليار دولار سنويا.

 

    

وبخلاف ذلك الوجود الاقتصادي، يعمد(14) الحزب الشيوعي الصيني إلى ترسيخ نفوذه في أفريقيا عبر زيارات متبادلة منتظمة مع العديد من الأحزاب السياسية الأفريقية الحاكمة، فيما تستضيف الصين الآن عددا أكبر من الطلاب الجامعيين الأفارقة أكثر من الولايات المتحدة، وتدير ما يقرب من 50 معهدا لتعليم لغة الماندرين والثقافة الصينية في أفريقيا، وتستثمر مليارات الدولارات لتوسيع وتمويل وسائل الإعلام الإخبارية التي تديرها الدولة في الأسواق الأفريقية، كما تبيع الصين المزيد من الأسلحة إلى الدول الأفريقية أكثر مما اعتادت عليه في أي وقت، وهي تعمل بشكل أوثق مع الحكومات الأفريقية في مجالات التسليح والتدريب العسكري، وتساهم أكثر في بعثات حفظ السلام.

  

وقد أثار الوجود الصيني انتباه واشنطن للقارة بشكل متأخر على ما يبدو، ولكن إدارة "ترامب" ظلت مترددة في الانخراط بشكل متزايد في القارة التي تذيلت قائمة سياستها الخارجية لدرجة أن منصب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية ظل شاغرا بلا أحد لمدة تقترب من عامين، فضلا عن تقليص إدارة "ترامب" لميزانية الوكالات الأميركية العاملة في أفريقيا، وحتى الجهود الحيية للبيت الأبيض لاستيعاب القادة الأفارقة غالبا ما كانت تأتي -على صغرها- بنتائج عكسية، مثلما حدث في سبتمبر/أيلول 2017 حين استضاف "ترامب" غداء عمل لتسعة رؤساء دول أفريقية على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة في الأمم المتحدة، حيث رحب برئيس دولة "نامبيا" قاصدا "ناميبيا" ومخطئا في نطق اسم الدولة، فيما اختار بعد ذلك أن يبدي اهتمامه بأفريقيا على طريقة رجال الأعمال قائلا إن القارة "لديها إمكانيات تجارية هائلة"، وإن لديه "العديد من الأصدقاء الذين يحاولون أن يذهبوا إلى هناك كي يصبحوا أثرياء"، حد قوله.

 

لكنّ اتجاها قويا(15) بدأ ينمو في واشنطن -منذ مطلع العام الماضي 2018- يبدو أنه يتعامل مع النفوذ الصيني في أفريقيا بجدية أكبر، وقد ظهر هذا الاتجاه مع الإعلان عن إستراتيجية الدفاع الوطني الأميركية الجديدة مطلع العام، واضعة(16) مواجهة الصين وروسيا على رأس الأولويات الأمنية والعسكرية الأميركية بعد عقد ونصف من التمحور والتركيز على "مكافحة الإرهاب"، اتجاه ترسخ مع صعود "جون بولتون" لموقع مستشار الأمن القومي في مارس/آذار من العام نفسه، وإعلانه في وقت لاحق وبعدها بأشهر قليلة عن إستراتيجية أميركية جديدة في أفريقيا تركز على مواجهة الصين وضخ المزيد من استثمارات واشنطن في القارة.

   

جون بولتون مستشار الأمن القومي (رويترز)
جون بولتون مستشار الأمن القومي (رويترز)

   

ومن أجل تحقيق هذا الغرض، دعمت إدارة "ترامب" تشريعا لإنشاء مؤسسة جديدة لتمويل التنمية بقيمة 60 مليار دولار لدعم الشركات الأميركية في أفريقيا وأماكن أخرى، كما أعلن "البنتاجون" خططا(17) لسحب 10% من موظفيه البالغ عددهم 7200 موظف في أفريقيا حتى يتمكن من إعادة توزيع الموارد لمواجهة موسكو وبكين، وقد أشارت تقارير لاحقة أن ربع القوة التي سيتم سحبها ستكون من فرق "مكافحة الإرهاب" في منطقة الساحل وغرب القارة السمراء، حيث تنوي واشنطن إيكال هذه المهمة بالكامل للجيش الفرنسي.

 

المسرح السياسي

على مدار أشهر الصيف الماضي، كان تهيئة المسرح السياسي في القرن الأفريقي تجري على قدم وساق من أجل الترتيب الأميركي الجديد، وهو ترتيب يمكننا القول بأن إريتريا المعزولة كانت الفائز الأول منه، حيث يبدو أن واشنطن كانت تستعد أخيرا لاحتواء حليف محتمل طالما نبذته في إطار جهودها الأوسع للتركيز على مواجهة روسيا وإيران، ويبدو أن أميركا وجدت نفسها مضطرة لتسريع ترتيبات احتواء إريتريا، بعد توارد الأنباء عن مبادرة روسية لبناء مركز لوجيستي في "عصب" كان من الممكن أن يمنح موسكو هي الأخرى موطئ قدم عسكري في القرن الأفريقي شديد الازدحام.

 

بدأت جهود الاحتواء الأميركي في يونيو/حزيران للعام الماضي، حين دفعت(18) واشنطن حلفاءها الخليجيين في الإمارات والسعودية لاستغلال الزخم المرافق لتغير القيادة في أفريقيا -وصعود رئيس الوزراء الشاب أبي أحمد- من أجل الدفع لمصالحة كبرى بين إثيوبيا وإريتريا، وهي مصالحة وضعت حدا للعداوة التاريخية بين الغريمين، وبعد ذلك بأسابيع كانت إريتريا والصومال قد توصلتا إلى اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد 15 عاما من العداء، كما أحرزت أسمرة تقدما في حل النزاع طويل الأمد مع جيبوتي، وشرعت في الدخول في مفاوضات لحل نزاعها مع السودان، جهود توجت في الرابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بتصويت بالإجماع لمجلس الأمن برفع العقوبات وحظر الأسلحة المفروضين على إريتريا منذ قرابة عقد من الزمان.

  

رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد (رويترز)
رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد (رويترز)

  

كانت التحولات الجوهرية(19) وراء هذا القرار واضحة للعيان بشكل كبير، فمن الناحية الظاهرية فإن الدلائل على دعم إريتريا لحركة الشباب الصومالية، وهو المبرر الرئيس لفرض العقوبات على البلاد في المقاوم الأول، صارت أضعف ما يمكن، أما من الناحية الواقعية فإن إريتريا لم تعد معزولة بالأساس مع انهيار نظام العقوبات وفقدانه وظيفته بشكل فعلي منذ عام 2015 على الأقل، وأخيرا على الجانب الإستراتيجي، فإن الوجود العسكري والاقتصادي الكثيف للصين في أفريقيا، وخاصة في جيبوتي التي تستضيف مقر القيادة الأميركية، قد وجّه مصالح واشنطن بشكل مباشر نحو جارتها إريتريا التي يمكنها في المستقبل استضافة قاعدة أميركية -كما سبق وعرضت بالفعل قبل عقد ونصف- وتزويد الولايات المتحدة بوصول غير محدود إلى موانئها.

 

ولكن لكي يحدث ذلك، كان ينبغي أولا أن يتم إخراج إريتريا من عزلتها الدبلوماسية الرسمية، وتطبيع علاقتها مع جيرانها، عبر حملة(20) أطلقتها واشنطن وحلفاؤها وشارك فيها مسؤولون دينيون كنسيون ودبلوماسيون أميركيون، وحتى حلفاء واشنطن العرب، لأجل الضغط على جميع الأطراف لحل خلافاتهم، حملة تترافق مع تغييرات مرتقبة في سياسة أميركا تجاه شرق أفريقيا على وجه الخصوص، وتشمل تقليصا محتملا لاستثمارات واشنطن في الجيوش الأفريقية -خاصة إثيوبيا وكينيا- لصالح تركيز أكبر على دفع الشركات الأميركية للاستثمار في شرق القارة لمواجهة نظيرتها الصينية، مع إطلاق يد أبوظبي والرياض والقاهرة كوكلاء لرعاية المصالح الأميركية في المنطقة، أما بالنسبة لإريتريا على وجه الخصوص، فمن غير المؤكد أن أسياس أفورقي سوف يقنع بتلك النهاية السعيدة للعبته الطويلة، أو أنه سيتراجع عن اللعبة الأثيرة لأنظمة دول القرن الأفريقي في جلب المزيد من الخصوم المتشاكسين جنبا إلى جنب نحو أراضيهم، حتى نهاية اللعبة، أو نهايتهم هم بكل الأشكال.

المصدر : الجزيرة