شعار قسم ميدان

"القتلة الاصطناعيون".. هل سيمنح الجيش الأميركي سلطة قتلنا للروبوتات؟

جزيرة والوبس هي أراضٍ مستنقعية نائية تقع على طول الشاطئ الشرقي لولاية فيرجينيا الأميركية، وتُعرف كمنطقة تستخدمها الحكومة وشركات القطاع الخاص لإطلاق الصواريخ؛ لكنها تُعتَبر أيضا رقعة مثالية لتجارب تكنولوجيات الأسلحة الفائقة. إنْ عَبَرَ المستنقعَ زورقٌ للصيد في أكتوبر/تشرين الأول الفائت، فعلى الأغلب سيكون طاقمه قد لمح سربا من القوارب المطاطية ذات طول 7 أمتار ونصف وهي تقطع المياه الضحلة بشكل معتاد. بإمعان النظر، كان الطاقم سيلحظ غياب العنصر البشري؛ عتلاتُ صمّام المحرّك تعلو وتهبط من تلقاء نفسها كما لو كانت مسكونة بالأشباح. كانت القوارب تستخدم تجهيزات التكنولوجيا الفائقة لاستشعار المحيط، والتواصل مع بقية القوارب الأخرى، والتمركز أوتوماتيكيًّا بحيث يتمكَّن رشاش البنادق الآلية "براونينج 50" من إطلاق رشقات متواصلة من الرصاص في أثناء إنزال الجنود.

 

تهدف هذه الجهود السرية، وهي جزء من برنامج "النقل البحري" "SeaMob" الذي تطلقه قوات البحرية الأميركية، إلى إثبات قدرة الزوارق المزودة بالتكنولوجيا المتطورة على تنفيذ هجمات فتَّاكة دون الحاجة إلى وجود البشر في حجرة القيادة. لاقت التجربة النجاح، حيث وُصفت من قِبل بعض المصادر المطلعة على البرنامج بالخطوة الفارقة في تطوير موجة جديدة من أنظمة الأسلحة الذكية التي سرعان ما ستشق طريقها إلى أرض المعركة. ليست الأسلحة الأوتوماتيكية الفتّاكة الضخمة بالأمر الجديد كليا، فقد استُخدمت هذه الأنظمة لعقود، وإن اقتصر دورها على النواحي الدفاعية، كتفجير الصواريخ التي تنطلق باتجاه السفن والبوارج. لكن مع تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، بات الجيش الأميركي على وشك تجنيد روبوتات تكون قادرة على شن الهجمات، وتمييز الأهداف، وتنفيذ ضربات فتّاكة بالاستغناء عن التوجيه البشريّ المباشر.

لا يزال المسؤولون في الجيش الأميركي يرفضون أن تُمنح هذه الروبوتات السلطة الكاملة، ولا يبدو أن هناك مخططات مؤكدة للقيام بذلك في المستقبل القريب. والأمر طبيعي، فقد نشأ العديد من هؤلاء الضباط لسنوات على أهمية التحكم في ميدان المعركة. يستند النقّاد داخل الجيش وخارجه إلى عدد من المخاوف، من بينها عدم القدرة على التنبؤ بالقرارات التي تتخذها الروبوتات أو فهمها، إمكانية وجود خلل في التعليمات المبرمجة أو تعرضها للاختراق، وإمكانية خروج هذه الآلات عن الدور المسند إليها من قِبل صانعيها، دون إغفال الجانب الأخلاقي، حيث يجادل البعض بأنَّ السماح بهذا النوع من الأسلحة ينتهك التشريعات القانونية والأخلاقية التي وُضعت بعد فظائع الحرب العالمية الثانية بشأن استخدام القوة في ميدان المعركة.

 

لكن استخدام آلات الذكاء الاصطناعي في الحرب يكتنفه العديد من المزايا أيضا؛ عادة ما يتطلَّب البشر رُبعا من الثانية للانتباه إلى شيء أمامهم، لكن الآلات تجاوزت القدرة البشرية، على الأقل في سرعة المعالجة. في بداية هذا العام، على سبيل المثال، قام الباحثون بجامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة بإدخال بيانات 1.2 مليون صورة إلى أحد الحواسيب، وتمكَّن الحاسوب من تحديد العناصر في الصور في غضون 90 ثانية، أي في غضون 0.000075 للصورة الواحدة.

 

لم تكن النتيجة النهائية بتلك الروعة، فبرغم سرعتها المذهلة، تمكَّنت الأنظمة من التعرف على العناصر بدقّة في 58% من المرَّات، وهو معدَّل يمكن أن يكون كارثيا في ميدان المعركة. لكن حقيقة أن بوسع الآلات أن تتصرّف، ويكون لديها ردّ فعل ما، بصورة أسرع من البشر، بات أكثر أهمية مع تسارع وتيرة الحرب. خلال العقد القادم ستتمكَّن الصواريخ من الانطلاق إلى الفضاء بسرعة ميل في الثانية، وهي سرعة تتخطى القدرة البشرية على اتخاذ القرارات الحاسمة، كما ستكون قادرة على مهاجمة الطائرات المسيَّرة في أسراب كاملة باستخدام التوجيه الذاتي، بينما ستتمكَّن الحواسيب المتخصصة من شن عدوانها على الحواسيب الأخرى في سرعة الضوء. قد يصنع البشر الأسلحة ويمنحونها تعليمات مبدئية، لكنَّهُم سيكونون مجرّد عقبة فيما بعد، كما يتوقَّع العديد من المسؤولين العسكريين.

الطائرات المسيرة (رويترز)
الطائرات المسيرة (رويترز)

يقول روبرت وورك، نائب وزير الدفاع في البنتاغون خلال فترتَيْ أوباما وترمب: "إنَّ المشكلة عندما تتعامل مع الحرب من منطلق سرعة الآلات هي وجود نقطة يصبح فيها الإنسان عائقا؛ لن يكون بإمكان البشر مواكبة السرعة، ما يعني أن عليك تفويض الأجهزة عند مرحلة ما". هذه الأيام، تحاول أفرع الجيش الأميركي كافّة البحث عن سُبُل تُمكِّنها من تحقيق قفزات هائلة في التعرف على الصور ومعالجة البيانات بهدف خلق نوع من الحرب يكون أكثر سرعة، وأكثر دقة وأقل إنسانية.

 

في هذه الأثناء، يعمل الجيش الأميركي على تطوير نظام جديد للدبابات يتمكَّن من اختيار الأهداف بذكاء ويُصوِّب نحوها بدقة. بالإضافة إلى نظام صاروخي يُسمى "صاروخ جو أرض مشترك" (JAGM) الذي يمتلك القدرة على اختيار المركبات ومهاجمتها دون تعليمات بشرية. في مارس/آذار الفائت، تقدَّم البنتاغون بطلب تمويل من الكونغرس لاقتناء 1051 برنامجا من شركة "لوكهيرد مارتن"، إحدى أكبر شركات التصنيع العسكري الأميركي، بقيمة 367.3 مليون دولار. بينما تعمل القوات الجوية على تعديل نسخة بدون طيّار من مقاتلات F-16 كجزء من برنامج "سكاي بورغ" (SkyBorg)، الأمر الذي سيُمكِّنها عند مرحلة من نقل كميات ضخمة من العتاد العسكري إلى معركة تُدار بواسطة الكمبيوتر.

 

حتى هذه اللحظة، لا تزال الأنظمة الحربية الجديدة تُصمَّم بحيث تتطلَّب الإذن البشري لإطلاق عنفها الفتّاك، لكن ما يلزمها هو القليل من التعديلات لكي تكون قادرة على الاستغناء عنه. لا تمنع قوانين البنتاغون، التي سُنَّت في عهد إدارة أوباما، منح السلطة المطلقة للحواسيب في اتخاذ قرارات القتل، لكنها تشترط معاينة دقيقة للتصاميم من قِبل المسؤولين الكبار، وهو ما استهلّ نقاشات واسعة في الجيش بشأن الظروف التي سيُسمح فيها للآلات باتّخاذ قرار من هذا النوع.

يبدو أن الصين تتجه مبدئيا إلى تحسين قدرات المراقبة الداخلية عبر تقنية التعرف إلى الوجوه وتقنيات أخرى للتعرف
يبدو أن الصين تتجه مبدئيا إلى تحسين قدرات المراقبة الداخلية عبر تقنية التعرف إلى الوجوه وتقنيات أخرى للتعرف

ليست الولايات المتحدة البلد الوحيد الذي سلك هذا الطريق. في بداية التسعينيات، قامت إسرائيل بتصميم نظام ذكاء اصطناعيّ لطائرة بدون طيّار أسمته "HARPY"، يُحلِّق فوق المنطقة المُستهدَفة ويهاجم أنظمة الرادار من تلقاء نفسه. قامت إسرائيل فيما بعد ببيع هذه الأنظمة إلى الصين من بين بلدان أخرى. وفي بداية الألفية الثانية، قامت بريطانيا بتصميم صاروخ "Brimestone"، الذي يستطيع إيجاد المركبات المُستهدفَة والتنسيق مع صواريخ أخرى بهدف تحديد تلك التي سيتم تفجيرها، والترتيب الأنسب للتفجير، وإن كان لا يزال من النادر السماح له العمل بكل هذه الحرية. في حين تباهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2018 بشأن نشر غواصة بدون طيار زعم أنها مُجهَّزة بـ "ذخيرة نووية"، مشيرا إلى درجة من السيطرة الآلية على أكثر الأسلحة البشرية فتكا. قبل عام بالضبط، قال بوتين إن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي "يأتي بفرص هائلة، ولكنه يفرض أيضا تهديدات يصعب التنبؤ بها"، ثم أضاف بأنَّ البلدان التي تضخ استثمارات ضخمة في تطوير الذكاء الاصطناعي "ستحكم العالم".

 

لم تُدلِ الصين بتصريحات من هذا النوع، لكن الرئيس شين بينغ أحبط المسؤولين الأميركيين عندما أكّد في عام 2017 أن بلاده ستكون رائدة في هذا المجال بحلول عام 2030. ويبدو أن الصين تتجه مبدئيا إلى تحسين قدرات المراقبة الداخلية عبر تقنية التعرف إلى الوجوه وتقنيات أخرى للتعرف، لكن إدخال هذه التقنية إلى الاستخدام العسكري ليس بالأمر الصعب، بحسب مسؤولين أميركيين.

 

الخوف من أن تتخلّف الولايات المتحدة عن ركب خصومها، روسيا والصين، هو ما أشعل نيران "الحرب الباردة التكنولوجية"، على حد وصف جنرال الجيش الأميركي المتقاعد ديفيد بتريوس. لم يفصح البنتاغون عن تكلفة برامج تطوير الذكاء الاصطناعي حتى اللحظة، وإن كانت تقديرات "خدمة أبحاث الكونغرس" تفيد بأن وزارة الدفاع قد أنفقت أكثر من 600 مليون دولار على العمل في هذا المجال عام 2016 وأكثر من 800 مليون دولار في عام 2017.

 

في مارس/آذار الماضي، أفاد البنتاغون أنه بصدد طلب مخصصات بقيمة 927 مليون دولار من الكونغرس بهدف تطوير المزيد من البرامج في العام القادم، يذهب منها هذه السنة 209 مليون دولار لمكتب الذكاء الاصطناعي الجديد في البنتاغون "مركز الذكاء الاصطناعي المشترك" (JAIC)، الذي أُسِّس في يونيو/حزيران من عام 2018 للإشراف على البرامج التي تتخطّى ميزانيتها 15 مليون دولار. تُصنَّف معظم الأعمال التي يضطلع بها هذا المركز كأعمال سريّة، وكل ما تحدث عنه المسؤولون على العلن يُركِّز على الإغاثة في حالات الكوارث. يتكتّم البنتاغون على جهوده في هذا المضمار، لكن المستندات العامّة واللقاءات التي تُعقد مع المسؤولين الكبار والمصادر السرية تشي بأن الجيش في مرحلة إرساء القواعد والأساسات التي ستُمكِّن الذكاء الاصطناعيّ من الهيمنة أكثر فأكثر على العمليات العسكرية.

 

الطريق إلى الحرب معبّد بالعلم

الطريق إلى الحرب معبّد بالعلم

بعد الوصول إلى المريخ عام 2003، وفي رحلة استغرقت 286 مليون ميل، أيقن علماء الكواكب أنَّ الاتصال السريع بالأرض سيكون مهمة صعبة، حيث يتطلّب وصولُ أبسط الأوامر من كوكب الأرض إلى المركبة بهدف منعها من التعثّر مدةً زمنية بلغت 10 دقائق كانت تصل بعد التعثر. لذا قام العلماء بتطوير مجسات وحواسيب تُمكِّن المركبات من البحث حول الأماكن الخطرة على أراضي المريخ أوتوماتيكيًّا. وقد نجح الأمر، فقد تمكَّنت المركبات التي صُمِّمت في الأصل لتعيش 90 يوما وتقطع نصف ميل يوميا من قطع المزيد من الأميال على سطح الكوكب خلال مدة بلغت ست سنوات.

 

لفت هذا الإنجاز أنظار العلماء في مكاتب مركز الحروب البحرية (WCFC)، في ماريلاند، حيث طلبوا من الفريق الذي ساهم في تصميم تلك المجسات مساعدة البحرية الأميركية في تصميم سفن وبوارج مستقلّة ذات كفاءة أعلى. لكن قوارب البحرية المستقلّة هذه تعمل في المياه المتحركّة، لا على أرض صلبة، مما يتطلَّب رفع وتحسين قدرة المجسات على التمييز والتعرف. معظم هذا العمل قام به مايكل وولف، الذي انضمَّ إلى مختبر الدفع النفّاث (JPL)، في ناسا، فور حصوله على شهادة الدكتوراة من جامعة كاليفورنيا. رفضت البحرية منحه الإذن هو وأي مسؤول آخر من المختبر للحديث معنا. لكنه نشر آخر بحث له مؤخرا بعنوان "سافانت" (SAVANT)، اختصارا لـ "نظام التحليل البصري الخارجي والتعقّب المستقلّ".

 

في الوقت الذي قامت البحرية الأميركية باختبار هذا النظام في عام 2009، كما تفيد إحدى الأوراق والصور الرسمية، كان لسافانت شكل حجرة المنارة، حيث ثبّتت ست كاميرات بشكل دائري داخل صندوق مضادّ لتقلبات الطقس على سارية السفينة، وتم إدخال الصور التي التقطها إلى نظام حاسوبي عقد مقارنة بينها وبين مكتبة للصور البحرية، ومنها صور لعدد ضخم من السفن. كان النظام مُصمَّما بحيث يتعاظم ذكاؤه بمرور الوقت، باستخدام خوارزميات التعليم الذاتي التي باتت تقترن مع تطوّر أعمال الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الخمس الماضية. لكن بحلول عام 2014، لم يكن وولف قد حصل على صور أفضل فحسب، إلا أنه ساعد في تأليف خوارزميات تساعد العديد من القوارب والبوارج على التنسيق فيما بينها ضد عدو محتمل، وفقا للبحرية الأميركية.

 

المهم هنا هو قدرة هذه السفن على تشارك البيانات التي تجمعها من المجسات، بهدف خلق صورة كاملة مشتركة تُمكِّن كل واحدة منها من أن تقرر الخطوة التالية بنفسها. لكنّها كمجموعة تعمل ضمن أساطيل ذكية أو فرقة مستقلة من القوات البحرية الأميركية أيضا. تقوم كل سفينة بما تعتقد أنه الخيار الأفضل لها، لكنها أيضا جزء من سرب منظم لديه القدرة على التجمع وتدمير عدد من الأهداف المحتملة، مما دفع البحرية إلى تسميتها بالقوارب المتتابعة (Swarboats).

 

في البداية، كان الطموح دفاعيا فحسب، كالبحث عن طريقة لمنع وقوع هجوم مماثل لـ "يو إس إس كول" في عام 2000، عندما أرسل اثنان من الانتحاريين قاربا محملا بالمتفجرات باتجاه مدمّرة أميركية أثناء تزوّدها بالوقود في ميناء عدن اليمنيّ، ولقي 17 بحارا حتفهم فيما أصيب 37 بجراح خطيرة، وخرجت المدمرة الأميركية عن نطاق الخدمة لمدة عام كامل. لكن في عام 2014، أثبت البرنامج كفاءته عندما قامت خمسة قوارب بأنظمة مستقلة بمحاصرة قوارب أخرى تم تمييزها كقوارب للعدوّ، وهو ما دفع عددا من المسؤولين في البنتاغون إلى الدفع باتجاه المزيد من اعتناق برامج الذكاء الاصطناعيّ. وكنتيجة، بدأ النظام الذي ابتكره مختبر الدفع النفاث في تطوير الطائرات المسيرة أيضا، بالإضافة إلى المركبات البرية التابعة لمركز أبحاث وتطوير دبابات الجيش الأميركي المستقلة.

المدمرة الأميركية "يو إس إس كول"  (رويترز)
المدمرة الأميركية "يو إس إس كول"  (رويترز)

يزداد تحسُّن الخوارزميات عاما بعد آخر. وعما قريب، سيكون بوسع بعض الفرق إدماج شبكات عصبية، وهي نماذج محوسبة تهدف إلى محاكاة بنية الدماغ البشري بطبقات من عناقيد معالجة البيانات التي تحاكي الأعصاب البشرية في طريقة عملها. في عام 2015، توصل فريق من شركة مايكروسوفت وغوغل إلى نتائج صاعقة باستخدام نظام "ImageNet"، حيث قاموا بتصميم خوارزميات تتخطى الأداء البشري: عند تمييز الصور أخطأ البشر بنسبة 5.1% من المرَّات، في حين بلغت نسبة خطأ خوارزميات مايكروسوفت وغوغل ما دون الـ 5%. وقد ساهمت النتائج الصاعقة لنظام "ImageNet" في إقناع مسؤولي البنتاغون بأن "الآلات أفضل في تمييز الأهداف من البشر"، كما يتذكّر روبرت وورك، الذي كان نائبا لوزير الدفاع آنذاك والذي قال إنه "كان يوما بالغ الأهمية بالنسبة لوزارة الدفاع".

 

رشاش "الكتيبة" (Phalanx) هو رشاش بحري مزوّد بستّة أنابيب لضخّ الرصاص، وبوسعه إطلاق 75 رصاصة في الثانية من البوارج الحربية الضخمة والمتوسطة، يضطرب بعض الشيء قبل الإطلاق، لكنه يقوم بعدد من التصحيحات عند تتبع التهديدات القادمة على بُعد ميلين، بما فيها الصواريخ والطائرات، كما يراقب مسار الرصاص بحيث يتأكَّد من أنه يُصوَّب على الهدف، كل هذا بدون أي تدخّل بشري. ليس الرشاش بالاختراع الحديث كليا، فقد اعتلى البوارج الحربية الأميركية لنحو 30 عاما، وقد قامت الولايات المتحدة ببيعه للعديد من الحلفاء.

رشاش "الكتيبة" (phalanx) (مواقع التواصل)

هذا التاريخ الطويل هو أحد الأسباب العديدة التي تجعل أمثال الأدميرال ديفيد هان أكثر مرونة في السماح لهذه الآلات بامتلاك القدرة على اتخاذ قرارات القتل في المعركة. لدى الأدميرال تاريخ طويل مع الأجهزة الآلية، ويعمل اليوم مديرا لمكتب أبحاث البحرية "ONR"، الذي تبلغ ميزانيته 1.7 مليار دولار أميركي سنويا، كما يشرف على مساعي البحرية الأميركية في دمج الذكاء الاصطناعي مع المزيد من أنظمتها، ويقول: "إن هذه الأنظمة ليست بالجديدة تماما؛ إنها قد تكون أكبر، قد تحوي بيانات أشمل، لكنَّ الجوهر هو ذاته". كان مكتبه أحد الممولين الأوائل لبرنامج "SeaMob"، لكنه أحجم كأي شخصية أخرى من البحرية الأميركية عن مناقشة البرنامج أو التطرق إلى تجربة شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018.

 

من فوق الأرض وتحتها

هناك برامج مستقلة بحرية أخرى يجري تصميمها لسفن أكبر حجما، مثل سفينة "Sea Hunter" ذات طول 40 مترا، والتي تم تشغيلها لأول مرة عام 2016. لا يزال غير واضح كيف تقوم البحرية الأميركية بتسليح السفن، لكنَّ معركة مضادة للغواصات ستتطلَّب عادة وجود جهاز سونار، يكون إمّا في أعلى السفينة أو أسفل السطح، بالإضافة إلى الطوربيدات. أحد أسباب أهمية الأنظمة المستقلة هو قلق القادة من أن يكون تعرُّض أجهزة اللا سلكي للاختراق أو التشويش سببا لفقدان الاتصال في المستقبل، مما يحتّم على هذه السفن امتلاك القدرة على التصرف من تلقاء نفسها، وإلا فستكون عديمة الجدوى.

 

لا يقتصر عمل البحرية الأميركية على الأنظمة المستقلة للسفن، حيث تمتد التجارب إلى أنظمة الغواصات المستقلة للمساعدة في القضاء على الألغام البحرية، وذلك بهدف توفير السفن ذات الأحجام الأكبر والأكثر كلفة لنقل الجنود وتنفيذ مهام أخرى. وقد وصف هان هذه الغواصات، وأكثر الأنواع استخداما هي "MK18″، بأنها البداية لاستخدامات أوسع من قِبل البحرية الأميركية للأنظمة المستقلة تحت البحر. في فبراير/شباط من العام الحالي، كانت شركة بوينغ قد فازت بعقد بقيمة 43 مليون دولار أميركي لبناء غواصات بأنظمة مستقلة بحلول عام 2022، سيبلغ طول الواحدة منها 15 مترا، وستكون قادرة على قطع 12070 كيلومترا بمفردها. فور الانتهاء منها، تخطط البحرية لتجربتها في مهاجمة غواصات وسفن أخرى على حدٍّ سواء، كما أفادت مستندات حصلت عليها الأتلانتيك، حيث رفض مسؤولون من الشركة الإدلاء بأي تفاصيل.

جزئيا، يعود الاهتمام المحموم من قِبل البنتاغون بالتسليح المستقل إلى القفزات الهائلة في مجالات الهندسة والحوسبة، لكنَّ السبب الأكبر هو روبرت وورك، الذي أنفق 27 عاما في البحرية قبل أن يصبح وزيرا للدفاع، حيث كرَّس الكثير من وقته وهو يدرس التاريخ والإستراتيجيات العسكرية، بالتحديد في أثناء عمله في "مركز الأمن الأميركي الجديد" (CNAS)، وهي جماعة تفكير في واشنطن، في عام 2013، حيث كانت النتائج التي انتهت إليها محاكاة للنزاعات الافتراضية مع الصين أو روسيا مفزعة لـ "وورك" وزملائه. بعد الحرب الباردة، كان هذا النوع من التدريبات إما أن ينتهي بتحقيق الولايات المتحدة نصرا ساحقا، أو تفجير نووي. لكن المحاكاة الجديدة جعلت من الواضح أنَّ التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة بدأ في التبخّر.

 

مع بداية 2014، بدأ وورك بنشر تقارير حدّدت الحاجة إلى أسلحة تكون أقلّ تكلفة وأكثر مرونة وسرعة وفتكا بحيث تمنح القوات الأميركية المزيد من السرعة وتقلل اعتمادها على حاملات الطائرات والعتاد المماثل الهش، وهو ما دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى تعيينه نائبا لوزير الدفاع، في فبراير/شباط من العام نفسه، بعد عدّة أشهر أطلق وورك مبادرته التكنولوجية الشخصية. منذ أن بدأ وورك والآخرون في تحديد أنواع التقنيات التي كانوا يعتقدون أن بوسعها أن تميل كفّة القوة لصالح الولايات المتحدة، ومنها الحروب السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، والهايبرسونيك، حتى بدأوا بتحويل الأموال والموارد البشرية لتجهيز تلك التكنولوجيات للقتال.

 

هذه الخطوات دفعت بلدانا أخرى لإطلاق مبادرات عسكرية إبداعية خاصة بها؛ في عام 2016، كشفت الصين عن "Junweikejiwei"، وكالتها الجديدة للأبحاث والتطوير، أسوة بوكالة داربا الأميركية. وعلى نحو مماثل تمتلك روسيا معهد سكولكوفو (Skolkovo) للعلوم والتكنولوجيا خارج موسكو، وهو ما وصفته مصادر في وزارة الدفاع الأميركية بالنسخة طبق الأصل عن داربا. وكان تم إنشاء المعهد بالشراكة مع جامعة "MIT" الأميركية، التي سرعان ما انسحبت بعد العقوبات الأميركية التي طالت فيكتور فيكسيلبيرغ، الملياردير الروسي الذي موّل المشروع وارتبط بفضيحة التدخل في الانتخابات.

الملياردير الروسي "فيكتور فيكسيلبيرغ" والرئيس الروسي "بوتين"  (رويترز)
الملياردير الروسي "فيكتور فيكسيلبيرغ" والرئيس الروسي "بوتين"  (رويترز)

يقول وورك إن التفكير في أن الأجهزة الآلية يمكن أن تخرج عن السيطرة كما تظهر في أفلام "تيرميناتور" هو أمر مستبعد، لأن التكنولوجيّات الهجومية التي طُوِّرت تمتلك تطبيقات محدودة للغاية، إنها "تهاجم فقط الأهداف التي طُلبت منها". يتعاطف مع وررك جنرال القوات الجوية بول سيلفا، الذي تقاعد من منصبه نائبا لرئيس هيئة الأركان المشتركة في يوليو/تموز الماضي، وهو من أكبر الداعمين للإبداع في مجال الذكاء الاصطناعي. لكن سيلفا تحدث بصراحة عن "معضلة التيرميناتور"، أو عن كيفية التعامل مع آلات تترك لها حرية القتل.

 

في حديثه لدى جماعة تفكير في واشنطن عام 2016، أوضح سيلفا أن المسألة ليست افتراضية "في عالم الأنظمة المستقلة، وبينما نحن ننظر إلى إنجازات أعدائنا في المضمار نفسه، فلا بد أن ندرك أن مفهوم نظام روبوتيّ يمتلك حرية إلحاق الضرر قد بات بين أيدينا. كلا، لم يعد جيدا ولا محسّنا، إنه هنا، بين أيدينا". وفي خطاب ألقاه سيلفا لدى معهد بروكينجز، قال إنه مع الذكاء الاصطناعيّ سيكون من الممكن تلقين الروبوتات أن "تتعلم الأسلوب"، ومن ثم نقول لها: "بعد أن تتعلمي الأسلوب، قومي بتحديد الهدف". في هذه الأمثلة، لا يعود سلوك الروبوتات مجرد تنفيذ تعليمات من قِبل أشخاص آخرين، بل تصرُّفا بناء على إشارات قامت هي بخلقها بعد التعلم عبر التجربة، إما تجربتها هي، أو تجربة روبوتات أخرى.

 

لم يصل نظام "SeaMob" هذه المرحلة بعد، لكنّهم يضعون الأساس حاليا لكي تمتلك الآلات قرارات الحياة والموت. في التصوير السوداوي لأفلام تيرميناتور، يقرر نظام يُدعى "SkyNet" أن يمسح البشرية عن وجه الأرض. كان أحد المتعهدين في برنامج "SeaMob" قد اختتم أحد عروضه التقديمية بالإشارة إلى الفيلم مازحا: "نحن نبني SkyNet"، قبل أن تضيف الشريحة الأخيرة: "لكن مهمتنا هي التأكد من أن الروبوتات لن تقتلنا".

—————————————————————

ترجمة: فرح عصام.

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة