شعار قسم ميدان

بالأرقام.. هكذا خدع ترمب ناخبيه بشأن سحب القوات الأميركية

ميدان - بالأرقام.. هكذا خدع ترمب ناخبيه بشأن سحب القوات الأميركية

في أكثر من مناسبة، وعد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بانتشال الولايات المتحدة من الصراعات الخارجية المكلفة، وإعادة الجنود الأميركيين إلى البلاد، والتخفف من أعباء الالتزامات الخارجية. وقال في خطاب ألقاه في نسخة عام 2019 من مؤتمر حالة الاتّحاد: "إن الأمم العظيمة لا تزجّ بنفسها في حروب أبدية"، ثم تفاخر في أحد اجتماعات مجلس الوزراء في أكتوبر/تشرين الأول بالقول: "إننا بصدد إعادة جنودنا إلى بلادهم؛ لقد تم انتخابي لكي أُعيد جنودنا إلى الديار".

 

لكن بعد قرابة ثلاث سنوات على دخوله البيت الأبيض، لم تُسفر وعود ترمب بتقليص القوات عن نتائج ملموسة، حيث لم تطرأ أي تغييرات ملحوظة على التمثيل العسكري الأميركي العالمي الذي ورثه عن الرئيس السابق باراك أوباما. كما أنه لم يُخلِّص الولايات المتحدة من أعباء حماية الحلفاء، بل إنه، على العكس من ذلك، أثقل كاهل بلاده بالمزيد من المسؤوليات العسكرية، عبر زيادة أو إدامة تورط الولايات المتحدة في الصراعات الدائرة في أفغانستان، وسوريا، وكل مكان آخر. صحيح أنَّ ترمب سلك نهجا مخالفا تماما لنهج أوباما في كل شأن آخر، لكنه فيما يتعلق بنشر القوات العسكرية، والالتزامات الدفاعية في الخارج، حرص إلى حدٍّ كبير على بقاء أحجار رقعة الشطرنج كما ورثها عن الرئيس السابق، وتراجع عن العديد من وعوده.

       undefined

     

إن أوضح مقياس لجهود ترمب في تقليص انتشار القوات الأميركية من عدمه هو عدد الجنود الأميركيين في الخارج، حيث يشير "مركز بيانات القوى العاملة في وزارة الدفاع" إلى أن إدارة أوباما كانت قد نشرت بحلول شهورها الأخيرة قرابة 198000 جندي عسكري يعملون في الخدمة الفعلية في الخارج، بينما يبلغ تعداد هذه القوات في عهد ترمب 174000 جندي في الخدمة الفعلية. لكن هذا الاختلاف في الأرقام ينطوي على خدعة حسابية، فبدءا من ديسمبر/كانون الأول من عام 2017، بدأت وزارة الدفاع باستثناء أعداد القوّات الأميركية في أفغانستان والعراق وسوريا من تقاريرها الرسمية، متذرّعة بحاجة غامضة إلى "حماية قواتنا العسكرية". وعند قيامنا بإضافة الأعداد التقديرية للقوات العسكرية في تلك البلدان الثلاث سيبلغ المجموع الكلي قرابة 194000 جندي أميركي، وهو رقم قريب من ذلك الذي ورثه ترمب.

 

السبب الفعلي وراء فشل ترمب في خفض أعداد القوات الأميركية في الخارج هو أنه يتراجع عن قرار الانسحاب في كل مرة. ولنأخذ حالة أفغانستان مثالا، فقبل الانتخابات، كثيرا ما كرّر ترمب أن الحرب في أفغانستان "غلطة فظيعة"، وأنّ "الوقت قد حان لسحب القوات العسكرية!"، لكنّه ما إن تولى منصبه حتى رفع الحضور العسكري الأميركي في أفغانستان بمقدار 50%. صحيح أن البنتاغون أمر بإعادة عدد من القوّات إلى الديار، لكن عدد القوّات الحالي ارتفع إلى 12500 جندي بعدما كان تعدادها 8500 جندي أميركي عندما تولى ترمب الرئاسة.

 

وحدث الأمر ذاته في شمال سوريا، حيث أمر ترمب بسحب القوات الأميركية فجأة في ديسمبر/كانون الأول من عام 2018. وزعم في أحد الفيديوهات التي نُشرت في حسابه على تويتر: "إننا انتصرنا في الحرب على تنظيم الدولة. وإن أولادنا، وشبابنا، ونساءنا، ورجالنا، سيعودون إلى أرض الوطن". لكن بعد مقاومة عدة مسؤولين عسكريين في الكونغرس واستقالة عدد من المسؤولين الآخرين، تراجع ترمب عن قراره وقرّر الإبقاء على نصف الجنود الذين يبلغ تعدادهم نحو 2000 جندي أميركي في شمال سوريا. ثم أعلن الرئيس في أكتوبر/تشرين الأول أنه سيعمل على سحب الجنود الألف المتبقين، مفسحا المجال لتركيا كي تتقدّم في شمال سوريا وتشنّ حربها على الأكراد، حلفاء الولايات المتحدة. لكنّ المسؤولين في البنتاغون تمكّنوا مرة أخرى من إقناع الرئيس بإبقاء 90% من الجنود لحراسة حقول النفط المتاخمة للمنطقة، بينما سيتمّ نشر البقية في بقاع أخرى من المنطقة عوض إعادتهم إلى البلاد.

   

  

كانت أفريقيا هي المنطقة الوحيدة التي نجح فيها ضغط ترمب من أجل سحب القوات، حيث أعلن البنتاغون عن مراحل السحب التدريجي لمئات من الجنود الأميركيين في القارّة السمراء منذ عام 2018. لكن التمثيل العسكري الأميركي في أفريقيا كان ضئيلا نسبيا في المقام الأول، حيث يبلغ تعداد القوات الأميركية الحالي نحو 7200 جندي أميركي، ولأنّ عمليات مكافحة الإرهاب كانت لا تزال نشطة في غرب أفريقيا، اقترح القادة العسكريّون الإبقاء على نصف هذا العدد.

   

علاوة على ذلك، فقد تعثّر ترمب بالتزامات عسكرية جديدة في الشرق الأوسط وأوروبا، حيث وافق على نشر 14000 جندي أميركي إضافي في الخليج العربي على خلفية التوتر المتصاعد بين السعودية وإيران، بمَن فيهم 3500 جندي لحماية المنشآت النفطية السعودية. بالإضافة إلى تصريحه بتوسعة الحضور العسكري الأميركي في بولندا بإرسال 1000 جندي أميركي، وحاليا تقوم إدارته بإجراء محادثات لبناء قواعد عسكرية أميركية دائمة هناك في المستقبل. باختصار، إن تقلّبات ترمب أدّت فقط إلى إعادة توزيع ظاهرية للقوّات العسكرية وتسبّبت بخلط مزمن في أولويات الولايات المتحدة، لكنّها لم تؤدِّ إلى خفض واضح على مستوى أعداد القوات.

  

النصيب العادل

عندما كان مرشحا، وعد ترمب بخفض العبء المالي عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وعلى نحو أدق، أن يقوم الحلفاء الجاحدون للولايات المتحدة بدفع المزيد من المال لقاء المساعدات الأمنية الأميركية. وزعم أنّ الولايات المتحدة قد قوبلت "بقلّة الاحترام والسخرية، وتعرّضت للنصب طيلة العديد من السنوات على يد أشخاص أكثر ذكاء ودهاء وقوّة" (وخصّ بالذكر كلًّا من كوريا الجنوبية واليابان). وعندما تولى منصبه، استغل أول قمة للناتو لكي يُعلن عن استيائه من كون "العديد من هذه البلدان [الأوروبية] تدين بالكثير من المال للولايات المتحدة عن السنوات الماضية".

    

  

غير أن ترمب لم ينجح في حثّ بلدان الناتو على الوفاء بتعهّد عام 2014 الذي يقضي بأن يُنفق كل واحد من هذه البلدان 2% من ناتجه المحلي الإجمالي على التحسينات الدفاعية في غضون عقد من الزمن. عندما تولى ترمب منصبه، كانت أربع دول من الأعضاء التسعة والعشرين للناتو (بريطانيا، والولايات المتحدة، وأستونيا، واليونان) قد حققت شيئا بسيطا من هذه النسبة، بينما حققت أربعة بلدان إضافية (بولندا، ورومانيا، ولاتفيا، وليتوانيا) الرقم المطلوب، لكن هذا يرجع بصورة رئيسية إلى حقيقة أن إنفاق هذه الدول على التحسينات الدفاعية كان يتصاعد سلفا. لكن خلال هذه المدّة، كان الإنفاق البريطاني على التحسينات الدفاعية قد تراجع حتى استقر عند 2.1%، بينما يُتوقّع أن يرتفع الإنفاق الفرنسي على التحسينات الدفاعية من 1.8% حتى يُشكِّل 2% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن هذا لن يحدث عام 2025، بينما لن تصل ألمانيا حاجز الـ 2% حتى عام 2031. وحتى إن افترضنا جدلا أن هذه التعديلات المتواضعة هي استجابة لمطالب ترمب، فإنها معا لن تتجاوز 38 مليار دولار أميركي بحلول نهاية عام 2019، وهي زيادة عن 261 تريليون دولار في إنفاق الناتو دون الولايات المتحدة في عام 2016 والذي بات يُقدَّر بـ 299 مليار دولار أميركي هذه السنة.

 

لكن مقاومة منشادات ترمب بتقاسم الأعباء امتدت إلى حلفاء إستراتيجيّين غير أوروبيين، حيث لا يتجاوز الإنفاق العسكري الأسترالي نسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما يُشكِّل الإنفاق العسكري الياباني ما نسبته 2% من الناتج المحلي الإجمالي، لكنه الإنفاق ذاته تقريبا قبل مجيء ترمب. وصحيح أن كوريا الجنوبية رفعت مستوى إنفاقها الدّفاعي في عام 2018، عندما تصاعد التوتّر على شبه الجزيرة الكورية، لكنّنا عند قياس الإنفاق كنسبة من الناتج المحلي، سنجد أنّ الإنفاق الكوري الجنوبي في الجوانب الدّفاعية لم يتغير كثيرا خلال ولاية ترمب. بينما خفضت المملكة العربية السعودية من إنفاقها الدفاعي بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، من 87.2 مليار دولار أميركي في 2015 إلى 67 مليار دولار أميركي العام الماضي. وما من دليل على أن الدفعات المالية السعودية للولايات المتحدة قد ارتفعت خلال رئاسة ترمب.

 

مع تنصل حلفاء الولايات المتحدة من التزاماتهم الدّفاعية، وجدت إدارة ترمب نفسها مضطرة لدفع الفاتورة من جيبها الخاص. على مدار السنوات الثلاث الماضية، قامت الولايات المتحدة بإضافة ما يزيد على 139 مليار دولار أميركي إلى إنفاقها الدّفاعي، لترتفع قيمة الإنفاق الإجمالية من 611 مليار دولار في عام 2016 إلى قرابة 750 مليار دولار في عام 2019، وكان هذا بعد أن شجب ترمب ما أسماه "جنون" الميزانية العسكرية عام 2018. بكل المقاييس تقريبا، كان ترمب يُثقل كاهل الولايات المتحدة ماليا أكثر مما كانت عليه قبل توليه الرئاسة.

  

لا نهاية تلوح في الأفق
كوريا الشمالية أجرت تجارب صواريخ في عهد ترمب أكثر مما فعلت في عهد أوباما
كوريا الشمالية أجرت تجارب صواريخ في عهد ترمب أكثر مما فعلت في عهد أوباما
   

كان يُفترض بالبراعة التي ينسبها ترمب لنفسه في عقد الصفقات أن تحرر الولايات المتحدة من العبء الثقيل للشّراكات الخارجية. لكن برغم ادّعائه أنه يعرف "أكثر من الجنرالات"، فإن ترمب لم يُنهِ حتى اللحظة أي حرب من حروب الولايات المتحدة، حتى إن التدابير التي اتخذها ذهبت بالمكاسب التي حققتها الولايات المتحدة في كلٍّ من أفغانستان وسوريا. كما فشل في استبدال أي اتفاق آخر بالاتفاق الإيراني بعدما قام بتمزيقه، ناهيك بأن يستبدل به اتفاقا أفضل. لتعلن إيران في بداية نوفمبر/تشرين الثاني أنها ستبدأ بتخصيب المادة الانشطاريّة بما يتخطّى الحدود القصوى التي نصّت عليها اتفاقية العمل الشاملة المشتركة.

  

كما أن تودد ترمب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين برهن عن عدم فاعليته بالدرجة نفسها، حيث توقّفت محادثات ضبط السلاح بين روسيا والولايات المتحدة، واتسمت العلاقات بين البلدين بالفتور، مما حدا بروسيا إلى التقرب من الصين أكثر من ذي قبل. ينطبق الأمر ذاته على كوريا الشمالية، حيث لم تُسفِر جهود التواصل مع بيونغ يانغ عن تنازلات دائمة أو صفقة تمنح الولايات المتحدة أي أفضلية. في الحقيقة، إن كوريا الشمالية أجرت تجارب صواريخ في عهد ترمب أكثر مما فعلت في عهد أوباما. باختصار، إن أستاذ الصفقات ظل يعود خالي الوفاض في كل مرة. إن فشل ترمب لم يقتصر على عجزه عن إنهاء "الحروب الأزلية" للولايات المتحدة، إلا أنّ جهوده الدبلوماسية التخريبية في الملفّين الإيراني والكوري الشمالي تُرجّح إمكانية اشتعال حرب أخرى.

    

لعل التفسير الأكثر إقناعا لبقاء حصة كبيرة من التمثيل العسكري الأميركي حول العالم كما هي، هو أن هذا الالتزام مغروس بعمق في السياسات الداخلية
لعل التفسير الأكثر إقناعا لبقاء حصة كبيرة من التمثيل العسكري الأميركي حول العالم كما هي، هو أن هذا الالتزام مغروس بعمق في السياسات الداخلية
  

سارع ترمب إلى إلقاء اللوم في هذه الانتكاسات على ما يسميه "الدولة العميقة"، حيث تقول سردية ترمب الخاصة إنه ملتزم بتخفيض أعداد القوات، لكنّ مستشاريه والبيروقراطيين من حوله يحولون دون إتمام الأمر. لكن الرئيس لم تكن لديه مشكلة في طرد فيالق من المستشارين الذين امتنعوا عن العمل بمشورته. لربما افتقدت اختيارات ترمب في تلك المناصب إلى الاستمرارية، لكن يبدو أنه يحصل على ما يريده من موظفيه. وهناك دفاع آخر يلجأ إليه مناصرو الرئيس بالقول إن المسؤولين المُنتخبين من أمثال السيناتور ميتش مكونيل قد أحبطوا جهود الرئيس في خفض القوات. لكننا إن استثنينا الانسحاب السوري، الذي كان مجرد نزاع حول عدد ضئيل من القوات، فإن الجمهوريين منحوا الرئيس الدعم الكافي لتحقيق أهداف سياسته الخارجية.

  

لعل التفسير الأكثر إقناعا لبقاء حصة كبيرة من التمثيل العسكري الأميركي حول العالم كما هي، وما يصاحبها من التزامات خارجية، هو أن هذا الالتزام مغروس بعمق في السياسات الداخلية. يمكن لخطابيات ترمب أن تنحرف بحدّة عن الواقع دون عواقب، لأن قلة من سيناتورات الحزب الجمهوري لديهم الدافع لمحاسبته. في هذه الحقبة التي تتسم فيها السياسة بالاستقطاب المفرط، يختار أغلب المصوتين الوقوف بجانب أحزابهم مهما تراجعت هذه الأحزاب عن وعود انتخابية، ومهما أفشلت من مبادرات في السياسة الخارجية. طالما أن الجيش طوعي بالكامل، والضرائب جيدة، والإنفاق الحكومي أكبر من العائدات، فإنّ الغالبية العظمى من المواطنين الأميركيين ستظل معزولة عن الأثمان الباهظة للسياسة الخارجية. وطالما أن معظم الأميركيين يرغبون باستعراض العضلات والتأثير دون أي يُكلِّفهم ذلك أي شيء، فلن يُحاسب أي سياسي لأنّه يقتسم الوهم مع الناخبين. إن بإمكانهم قطع الوعود بالتغييرات الجذرية، وتجنّب اتخاذ أي قرار مهم، والاستمرار في التخبط. قد تكون هذه طريقة لكي تصبح رئيسا، لكنها بالتأكيد ليست الطريقة لإدارة قوة عظمى.

———————————————————————–

ترجمة: فرح عصام.

هذا المقال مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة