شعار قسم ميدان

محاولة اغتيال البغدادي.. هل ينقلب تنظيم الدولة على نفسه؟

ميدان - اغتيال البغدادي
تقديم

في العاشر من يناير/كانون الثاني المنصرم للعام الحالي، وعلى كتف وادي الفرات؛ وتحديدًا في بلدة "هجين" آخر معاقل "تنظيم الدولة الإسلامية" المعروف بـ "داعش"، نجا كما توارد "أبو بكر البغدادي" زعيم التنظيم من محاولة اغتيال ناتجة عن انقلابٍ قاده تيار معارض داخل التنظيم نفسه.

 

وبينما لا يعرف من [1] هو المسؤول عن محاولة الاغتيال؛ يبرز اسم واحد عن طريق رصد "تنظيم الدولة" مكافأة لمن يقتله، ويدعى "أبو معاذ الجزائري"، الموصوف على أنه أحد كبار أعضاء التنظيم ومن المقربين الثقات للبغدادي حسب صحيفة الغارديان البريطانية، ويشار إلى أنه المخطط والمنسق لعملية الاغتيال التي نتج عنها اشتباكٌ قتل فيه شخصان، وتعدُّ المحاولة إن صحت تفاصيلها سابقة من نوعها، حيث لم يسبق أن تعرضت حياة البغدادي لتهديد داخلي من قبل قدامى المحاربين الأيديولوجيين الذين تم اختبار ولائهم على مدى السنوات السابقة[1]، فهل تشهد ساحة التنظيم انقلابًا عسكريًّا؟ أم تصفية حسابات فكرية؟ أم مزيج من الأمرين؟ وهل هي إشارة على قرب تفتت التنظيم كاملًا أم أنها محاولة تمرد سيتم احتوائها؟

تأسيس: الصَدع الأيديولوجي.. من أين بدأت بذور المعارضة؟

في السابع عشر من مايو/أيار لعام 2017، أصدرت اللجنة المفوَّضة في الدولة الإسلامية مذكرة[2] بعنوان «ليهلك من هلك على بينة»، حددت فيها الموقف الرسمي للتنظيم من «التكفير» الذي اعتبرته مبدأ من مبادئ الدين، وأثارت المذكرة بدورها جدلًا دينيًّا من قبل شخصياتٍ عدَّة داخل "تنظيم الدولة"، خصوصًا تلك الشخصيات التي أتيح لها من بعد استقرار التنظيم في 2014 أن تناقش المرتكزات الفكرية له من دون الأخذ بها كمسلّمات لا حِيدة عنها، ومن بين مَن أثارتهم تلك المذكرة كان شيخًا بحرينيًا يدعى "تركي البنعلي"، وهو أحد تلامذة "أبو محمد المقدسي" والمفتي الأكبر في "تنظيم الدولة"، والذي رأى أن هذه المذكَّرة "متطرفة" بملاحظاته التي أصدرها ردًا عليها في عشرين صفحة، فصل فيها معارضته لما ورد بمذكرة اللجنة التفاوضية [3].

 

لم يلبث "البنعلي"، والمعروف بعدة أسماء وكنيات أخرى منها "أبو سفيان السلمي" و"أبو همام الأثري" و"أبو حذيفة البحريني"، والبالغ من العمر 32 عامًا والمنظر الأيديولوجي الأهم في التنظيم، لم يلبث كثيرًا على قيد الحياة بعد انتقاده هذا؛ حيث اغتاله "التحالف الدولي" بغارة جوية في نهاية نفس الشهر على منطقة "الميادين" في "دير الزور" بسوريا[4]، وبالتالي لم يشهد استجابة التنظيم لنصحه والتي تمثلت بسحب اللجنة المفوضة لمذكرتها "التكفيرية" في محاولة منها لرأب التصدع الذي خلَّفته داخل بنيان "تنظيم الدولة"[5]، كما أصدرت اللجنة سلسلة من إصدارات صوتية عنونتها بـ "سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية"؛ وتضمنت توضيحًا «لبعض مسائل المنهج والعقيدة التي وقع فيها الالتباس والاشتباه بسبب التعميم الصادر عن اللجنة المفوضة، وذلك لما تضمنه من أخطاء علمية ومنهجية وعبارات موهمة حمالة أوجه أدت إلى الوقوع في التنازع والخلاف»، كما ورد في الحلقة الأولى من السلسلة، فيما بدا وكأنه تراجع علني وتكتيكي ومحاولة تدارك سريعة لما أثارته المذكرة من بلبلة في صفوف التنظيم.

 

أمَّا على الطرف المناقض للصوت "الإصلاحي" داخل التنظيم _إن جاز القول_ "تركي البنعلي"، فقد علا قبله صوتٌ لتيّارٍ أشدّ تطرُّفًا للمفارقة من منطلقات "تنظيم الدولة" نفسه، وهو التيار الحازمي نسبة إلى "أحمد بن عمر الحازمي"، وهو سعودي الجنسية ومنظّر لما يعرف بـ "الجناح التكفيري" داخل التنظيم ومعتقل لدى السلطات السعودية. وقد جنح الحازمي برأيه إلى تبني مبدأ يسمى "التسلسل بالتكفير"؛ ينص على أنه من لم يكفِّر "الكافر"؛ يكفر هو بالإطلاق عالمًا كان أم جاهلاً، وقد شكّل متَّبعو الحازمي داخل التنظيم حالة الانفصال الجذري الأول عن "داعش" فكريًّا؛ وذلك عندما كانوا يقاتلون في العراق وسوريا ويتجادلون حول أن السكان المحليين الذين استخدموا المحاكم الحكومية وشاركوا في الانتخابات كانوا «كفارًا يستحقون الطرد»، لكنَّ قيادة "تنظيم الدولة" لم تولهم أهمية بسبب قلة عددهم[6].

 

ومع تنامي التيّار التكفيري داخل "تنظيم الدولة"، كان القيادي "حسين رضا لاري"، المعروف بـ "أبي عمر الكويتي"، بمثابة تمثيل حقيقي لفكر الحازمي؛ حيث قال بـ «تكفير مَن لم يكفِّر الظواهري (زعيم تنظيم القاعدة) حتى ولو كان أبا بكر البغدادي»[7]، حد تعبيره، كما اتهم قيادتهم بـ «الكفر» أيضًا لأنهم لم يدمّروا قبرًا صوفيًّا في الرقة، الأمر الذي أدى إلى اعتقاله بتهمة إثارة الفتنة، ليلقى حتفه بعد ذلك عام 2014 على يد التنظيم نفسه[8].

 

لم تكن نهاية "الكويتي" هي النهاية الدموية الوحيدة لأصوات معارضة داخلية على يد "تنظيم الدولة"؛ فبحلول عام 2015، ازداد استياء التيار التكفيري داخل التنظيم، فبدأوا بمحاولة تغيير النظام من الداخل على أمل تحقيق رؤيتهم الخاصة للخلافة؛ حيث تطوع كثير منهم للحسبة من أجل التأثير على التنظيم، لكن محاولاتهم لم تنجح فلجأوا إلى معاقبة «انتهاكات الشريعة» كما يُعرّفونها خارج السبل الرسمية؛ كضرب وقتل مهربي السجائر بدلاً من جلبهم إلى "مراكز شرطة" التنظيم، ما دفع "داعش" إلى قمعهم بشدّة، فهرب بعضهم إلى محيط الأراضي التي يسيطر عليها "تنظيم الدولة" حينها، وتقاعد بعضهم الآخر عن القتال وانتقل إلى الحدود التركية [9].

 

على غرار تصفية الكويتي وبثمن أكبر، قام التنظيم بإعدام مفتي الدولة وأمير "مركز البحوث والدراسات" وصاحب المنصة الإعلامية المعروفة باسم "مؤسسة التراث العلمي" المعارضة؛ الأردني "يوسف بن أحمد سمرين" المعروف بـ "أبي يعقوب المقدسي" في العام الماضي 2018، وذلك إثر بيانٍ عن "والي الشام" وهو رجل يعرف بـ "حجي حامد"، اتهم فيه المقدسي بالخيانة، وتمت قراءة البيان في أجزاء مختلفة من الأراضي الخاضعة للتنظيم، وكان البيان «تمهيدًا واضحًا للتخلّص من المقدسي» كما أعلنت مؤسسة التراث العلمي.

 

ومن التهم التي وُجهّت له قيامه بنشر كتاباته على الإنترنت دون موافقة البغدادي؛ والتجسس على الدولة الإسلامية وذلك بتواصله مع  أبي محمد المقدسي المنظّر الجهادي المؤثر في الأردن والذي كان أحد المعارضين الرئيسين للمجموعة، وقيل بأن تواصله معه كان بعد اعتقال الطيار الأردني معاذ الكساسبة وإعدامه على يد التنظيم في 2015 [10]، وغيرها من التهم التي أعطت انطباعًا بأن نهاية "المقدسي" قد حانت بشكل شبه قاطع، بالفعل قُتل المقدسي على يد "ديوان الأمن" بعد حفلة تعذيب شوّهت جسده، غير أنَّ التنظيم أعلن أنه مات بغارة للتحالف في وقت قريب من زمن تصفيته[11]، وهي حادثة مثلت حلقة شبه أخيرة في سلسلة تخلص بها "داعش" من شخصيات هددت تماسكه الأيديولوجي بجرأتها على توجيه نقد علني لأفكاره، ولقيادته في بعض الأحيان.

 

أعلنت قوات
أعلنت قوات "قسد" مؤخرا شنَّ معركتها الأخيرة على منطقة الباغوز بدير الزور السورية حيث يتحصّن مقاتلون من "تنظيم الدولة"
 
الساحة الآن: ماذا عن البغدادي؟

من مناطق نفوذٍ امتدت ما بين دفّتي العراق وشرقي سوريا، وفي ظهورٍ لن يتكرر مرة أخرى، خرج أبو بكر البغدادي معلنًا قيام ما أطلق عليه "الخلافة الإسلامية" في 29 يونيو/حزيران لعام 2014، وهي "خلافة/تنظيم" انضوى تحتها آلاف المقاتلين من جنسياتٍ مختلفة يترأسهم هو نفسه، في رقعة نفوذ أمست اليوم مهلهلة إن جاز القول، حيث لا يسيطر الآن التنظيم والبغدادي مما سبق إلا على مساحة جغرافية لا تكاد تتجاوز الـ 2 كم2 يقطعها نهر الفرات وتتكون من جزئين؛ "المراشدة" وجزء "الباغوز فوقاني" حيث تتركز المعارك الآن، ويُدافع عنها من قبل مئات قليلة ممن بقي من مقاتلي التنظيم الذين تحاصرهم قوات سوريا الديمقراطية -المعروفة بـ "قسد" اختصارًا- والقوات الأمريكية وقوات الميليشيات العراقية، في حين يهيم خليفتهم أبو بكر البغدادي على وجهه في الصحراء كما يتوقع البعض، وهو توقع لا نرجحه لاحتماليته الضئيلة، فهو الذي يعاني من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم إضافة إلى جروح خطيرة كما توارد بعد غارة جوية قبل أربعة أعوام، وبعد محاولة اغتيال له فيما يشتبه به أنه انقلاب داخلي على ما تبقى من التنظيم في الأسابيع المنصرمة.

وفي حين أعلنت قوات "قسد" مؤخرا شنَّ معركتها الأخيرة على منطقة الباغوز بدير الزور السورية حيث يتحصّن مقاتلون من "تنظيم الدولة"؛ كشف مصدرٌ  في "قسد"، على عهدة وكالة أنباء "سبوتنيك" الروسية، عن وجود "البغدادي" تحت حصار وحراسة مشددة من قِبَل قوات خاصة أمريكية شرق الفرات؛ وادعى المصدر أن التأخير مقصود من قبل الأمريكيين لتنفيذ سيناريو يتم فيه إنزال قوات خاصة أمريكية بأوامر من البنتاجون في عملية يُعلن من خلالها مستقبلًا القبض على "البغدادي" أو مقتله وإنهاء التنظيم رسميًا، الأمر الذي أخّر، كما يوضح ذلك المصدر، عملية إنهاء عناصر التنظيم في منطقة هجين.

وبحسب تلك النظرية، فإن محاولة اغتيال البغدادي بيناير المنصرم لم تتم إلا لمنع ذلك السيناريو من الحدوث، ولا يمكن ترجيح إن كان ما كشفه المصدر صحيحًا أم لا، لكن لا يمكن تجاهل أن الوكالة الإخبارية هي ذراع شبه رسمي لموسكو، وهي على طرف النقيض من العمليات الأمريكية في الأراضي السورية عمومًا، لكننا نرجح أيضًا أن البغدادي قد تم اعتقاله بالفعل، وأن مكانه معروف لوزارة الدفاع الأمريكية على أرجح تقديراتنا، مع تتبع نمط عمليات شرق الفرات ضد التنظيم في الشهرين الماضيين.

 

قد تُسارع قيادة
قد تُسارع قيادة "تنظيم الدولة" باستبعاد أو اغتيال شخصياتٍ أقل ولاء وإن كانت من الصف الأُول في سبيل ضمان عدم تكرار ما حدث مع البغدادي مرة أخرى
 
استشراف: أين يذهب التنظيم؟

لعدة أعوام، تمتع "تنظيم الدولة" بقدرة مختلفة على التماسك البنيوي في كل مستوياته الفكرية والإدارية والتنظيمية والعسكرية، لكن ذلك التماسك أخفى ورائه حركة خلافات ومناظرات عقدية ومنهجية تصاعدت بحدة وطالت أصل بنيته الأيديولوجية، وولَّدت انشقاقات وصراعات تكفيرية متبادلة مسّت الصف الأول من التنظيم، وربما لم تولّد هذه الخلافاتُ الانشقاقاتِ بنفس القدر الذي كشفت فيه عن وجودها بالأساس، وعلى الطرف الموازي كانت بنية التنظيم تتلقى صفعات قاسية عسكرية متمثلة بانحسار النفوذ الجغرافي في سوريا والعراق، إضافة إلى مسلسل تعقب واغتيال القادة الكبار الذي لم ينقطع.

لكنّ الحدث الفارق والضربة الأقسى في مسيرة التنظيم هي الانتقال من الخلافات التنظيرية إلى الاقتتال العسكري الداخلي؛ وذلك بمحاولة مباشرة لاغتيال قائد التنظيم من قبل مَن يُظنّ أنّه من حاشيته المقربّة؛ ما يعني زيادة الصدع على المستوى العسكري والإداري لا الفكري؛ وبينما يمرّ التنظيم بتغيرات بنيوية وعسكرية ليضمن لنفسه البقاء، وكما هي العادة في التنظيمات إذ يرتفع مستوى الشك الداخلي فيها في لحظات الانهيار، فقد تُسارع قيادة "تنظيم الدولة" باستبعاد أو اغتيال شخصياتٍ أقل ولاء وإن كانت من الصف الأُول في سبيل ضمان عدم تكرار ما حدث مع البغدادي مرة أخرى، وهي ضمانة قد تزيد إن صح سيناريو تحفظ الأمريكيين عليه، من سيرفعون درجة حمايته حتى تنفيذ خطة الإنزال إن تمت، أما إن كانت الأمور بنفس الصورة المباشرة، فقد يباغت بعض أفراد الصفين الثاني والثالث المتبقين "البغدادي" بانقلاب سريع يتسلمون في زمام الأمور في محاولة شبه أخيرة لإحياء "تنظيم الدولة" من مواته، وبكلا الحالتين، فقد أثبت العام الماضي تحديدًا أن الآلة الدولية العسكرية والاستخباراتية كانت أثقل في قبضتها بما لا يقاس على بنيان التنظيم الذي لم يتحمل بطبيعة الحال كل ذلك الثقل، وظل ينحسر جغرافيًّا وتمركزًا ويتشظّى منتهجًا حرب العصابات كاستراتيجية أثيرة، ربما في محاولة أخيرة لإعلان خلافة أخرى غير محتملة على أرضٍ ما.

المصدر : الجزيرة