شعار قسم ميدان

تفجيرات إيران.. هل تدفع طهران ثمن معاركها الإقليمية داخل حدودها؟

Iranians carry the coffins of members of Iran's elite Revolutionary Guards, who were killed by a suicide car bomb, at Isfahan airport, Iran February 14, 2019. Morteza Salehi/Tasnim News Agency/via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS PICTURE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY

شهدت إيران بالأمس ليلة هي الأسوأ ربما منذ مطلع العام الحالي، ولم يكن السبب في هذا معارك التصريحات والنفوذ التي اتخذت منها الولايات المتحدة سبيلا لعزل إيران في المؤتمر (1) المقام بمدينة وارسو – بولندا، منذ أمس والذي يستمر على مدار اليوم بينما خُصصت مساعيه لإقامة "ناتو عربي" يهدف لمواجهة المد الإيراني بالمنطقة، ولا الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تتصاعد تحدياتها في إيران على إثر ضياع الجهود الإيرانية المبذولة لاستعادة الاتفاق النووي وتخفيف العقوبات الدولية عليها، بل كان السبب هو التفجير الذي استهدف حافلة تقل جنودا من الحرس الثوري الإيراني بين مدينتي "زاهدان" و"خاش" الحدوديتين مع باكستان، حاصدا معه أرواح 41 جندي إيراني في واحد من "أكثر التفجيرات دموية" بإيران على مدار السنوات الماضية، كما وصفته (2) صحيفة النيويورك تايمز.

    

سارع تنظيم "جيش العدل" البلوشي-الإيراني بإعلان مسؤوليته عن الهجوم، الأمر الذي لم يتم التيقن منه بعد، وإن لم يكن مستبعدا ألا تذهب إيران بعيدا في توجيه أصابع الاتهام سواء للتنظيم في الداخل أو للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج -وعلى رأسهم السعودية والإمارات- في الخارج، وهو الأمر الذي لوح به "علي فدوي" أحد قادة الحرس الثوري الإيراني، تعليقا (3) على الحادث، بقوله إن "ردنا في الدفاع عن الثورة الإسلامية لن يقتصر على حدودنا".

 

    

لم تكن هي المرة الأولى من نوعها التي يتم فيها استهداف الحرس الثوري الإيراني، كما لم يكن هذا هو التفجير "الانتحاري" الأول كما تصفه إيران، الذي يتم خلال هذا العام ويتولى جيش العدل مسؤوليته، إذ شهد مطلع الشهر الحالي (2 فبراير/ شباط) هجوما (4) مماثلا على قاعدة تابعة لقوات "الباسيج" -قوات التعبئة الشعبية الإيرانية- بمدينة نيكشهر، جنوب شرق إيران، راح ضحيته شخص واحد وأصيب خمسة آخرين.

 

وقع كلا التفجيرين ضمن النطاق الجغرافي لإقليم "سيستان وبلوشستان" الكائن على الحدود مع باكستان، والذي تقطنه أغلبية مسلمة سنية تتشارك عرقيا مع كلا من البلوش الباكستان والبلوش الأفغان، وهو الإقليم ذاته الذي تسكنه جماعات بلوشية مسلحة عدة (5) تبنت العديد من التفجيرات والهجمات التي يشهدها الإقليم بشكل شبه منتظم منذ مطلع الألفية الحالية، وتتشارك هذه الجماعات هدفا رئيسيا يتمثل في الدفاع عن حق عرقية البلوش والمسلمين السنة ضد قمع الدولة الإيرانية ذات الأغلبية الشيعية. وفيما يُعتقد أن الهجوم الذي شهدته إيران بالأمس يبقى جزءا من سلسلة التفجيرات والهجمات المتصاعدة لجماعات البلوش المسلحة ضد الأجهزة الأمنية الإيرانية، فإن أبعادا أخرى قد أطلت في أفق السياسات الأمريكية خاصة تجاه إيران مؤخرا وجعلت اعتقادا راسخا يتشكل لدى الإيرانيين أن واشنطن، ومن خلفها السعودية والإمارات وتل أبيب، يسعون لاستغلال العلاقة المتوترة بين الدولة الإيرانية والبلوش لصالح زعزعة استقرار إيران داخليا، وإجبارها في النهاية على الانصياع لرغبات الولايات المتحدة فيما يتعلق ببرنامجها النووي وسياساتها الإقليمية، وهو الأمر الذي يبدو أن إيران لن تتقبله بيُسر، أو لن تفعل على الإطلاق، وهو ما يجعل ردود فعل إيران تجاه تفجير الليلة الماضية محط انتظار عالمي ومحلي، ومعه تبقى علاقة الدولة الإيرانية بالبلوش والمسلمين السنة داخلها محور الكثير من علامات الاستفهام.

 

لماذا إقليم "سيستان وبلوشستان"؟

تتشارك الأقلية من البلوش الإيرانيين، والمسلمة في معظمها، روابط عرقية مع مثيلاتها في كل من باكستان وأفغانستان، الأمر الذي ربط طهران، بقصد أو دون قصد، بما يحدث على حدودها مع كلا الدولتين، وإن مالت الكفة أغلب الأمر للمواجهة مع باكستان التي تتشارك أغلب الحدود مع الإقليم الإيراني، وهو الأمر ذاته الذي أرّق مضاجع دولة الملالي الشيعية، كون جارتها التي تتشارك العقيدة السنية مع أهالي الإقليم الحدودي هي جزء من تحالف سني (6) تقوده عدو إيران اللدود بالمنطقة؛ السعودية، وهي -من قبل ذلك- التي مثّلت موطنا لمراكز تدريب وتوريد الجهاديين -المتطرفين من وجهة نظر إيران- للمنطقة، والعالم.

   

undefined

   

على الرغم من أن دولة الملالي كانت قد استوعبت (7) في منظومتها أقليات عدة من العرب والتركمان والأذريين وغيرهم ممن أصبح انتمائهم حاضرا للدولة الإيرانية قبل غيرها، فإنه يبدو أن المنظومة ذاتها لم تكن قادرة على استيعاب التنوعات المختلفة من الأقليات والعرقيات التي تمثل حوالي 50% من سكان إيران، وكان البلوش والمسلمين السنة أحد الذين لم تستوعبهم السلطات الإيرانية، فمحاولات فرض طهران سيطرتها على إقليمها الحدودي بداية من إرسال مجموعات من الشيعة للاستقرار بالإقليم بهدف تكوين أغلبية شيعية هناك، وليس انتهاءً بعمليات تحويل المياه عن الإقليم وإهماله اقتصاديا واجتماعيا. الحال الذي جعل من الإقليم الأزمة التي صنعتها وستواجهها إيران داخل حدودها منذ بداية عمل التنظيمات المسلحة داخله في 2010، بينما كان الهدف لتلك التنظيمات حينها واضحا ومنذ البداية، والذي لم يحِد عن "الدفاع عن حق البلوش والمسلمين السنة في إيران ضد قمع الدولة".

 

لا يُعرف تحديدا متى تشكلت أغلب الجماعات المسلحة المنتشرة والفاعلة حاليا بالإقليم، وإن ظلت البداية الحقيقية لها مع إعلان "عبدالمالك ريغي" تشكيل جماعة "جُند الله" في بلوشستان الإيرانية -إقليم سيستان وبلوشستان- عام 2003، وفيما ظل كل من التنظيم وقائده محل تقدير واحترام عناصر التنظيمات المسلحة التي ستظهر تباعا بعد ذلك في الإقليم، فإن "جند الله" لم يلبث إلا أن تفكك -في صورته الأولى- بعد القبض على ريغي وإعدامه في 2010 على أيدي السلطات الإيرانية.

  

عبدالمالك ريغي زعيم جماعة جند الله المتمردة على الحكومة الإيرانية (رويترز)
عبدالمالك ريغي زعيم جماعة جند الله المتمردة على الحكومة الإيرانية (رويترز)

  

ما بين إلقاء القبض على ريغي في فبراير/شباط 2010 وإعدامه في يونيو/حزيران من العام نفسه، عاصرت جماعة "جند الله" فترة من التخبط، إذ اعتبر ربغي ضمن صفوف "جند الله" -وبين عناصر الجماعات التي ستتشكل فيما بعد- "قائدا روحيا" للجماعات المسلحة البلوشية في إيران، ما جعل خسارته يصعب تعويضها. استمر هذا التخبط طوال 2010 وحتى نهاية 2011، ففي ديسمبر/كانون الأول لهذا العام خرجت إلى العلن جماعة "أنصار إيران" والتي يُعتقد أنها، وجيش العدل، ليسوا إلا شكلا جديدا من "جندالله". وفيما اتخذ جيش العدل طريقه منفردا ومتفردا فيما بعد، اندمجت "أنصار إيران" في 2013 مع تنظيم "حزب الفرقان" ليتشكل التنظيم المعروف حاليا باسم "أنصار الفرقان".

 

كانت تلك الفترة من فبراير/شباط 2010، حين ألقي القبض على ريغي، ومرورا بإعدامه في يونيو/حزيران من العام نفسه، وحتى أواخر 2011 تقريبا، فترة تخبط لعناصر "جند الله" وغيرهم. وبالرغم من أن الجماعات المسلحة بدأت في تنظيم شؤونها داخليا والإعلان عن نفسها منذ ديسمبر/كانون الأول 2011 الذي يُعتقد أنه كان البداية الحقيقية لتشكيل جماعة "أنصار إيران" وإن لم تُعلن الجماعة عن نفسها بشكل فعلي إلا في منتصف العام التالي بتفجير استهدف مسجد شيعي في ميناء "شابهار" بالإقليم، وقبل أن تندمج مع تنظيم "حزب الفرقان" في 2013 مكونة لتنظيم "أنصار الفرقان".

 

في الوقت ذاته من منتصف 2012، ساد اعتقادٌ أنه التاريخ الذي مثّل محطّة البدء الفعلي لظهور "جيش العدل" بعدة هجمات مسلحة وعمليات اختطاف وتفجيرات استهدفت بشكل رئيس القوات الأمنية وقوات الحرس الثوري وتنظيماته على اختلافها، إلا أن العملية التي تبناها "جيش العدل" العام الماضي (منتصف أكتوبر/تشرين الأول) بإعلانه مسؤوليته عن اختطاف 12 من عناصر الحرس الثوري والأمن الإيراني، كادت أن تشعل أزمة دولية بين طهران وإسلام أباد على خلفية اتهامات وجهتها الأولى للثانية بتوفير ملاذ آمن لعناصر الجماعة التي كان يُعتقد أنها تحتفظ بالرهائن من عمليتها داخل الحدود الباكستانية.

 

  

بعدالعملية، توجه وفد عسكري إيراني إلى باكستان لبحث الجهود المشتركة بين طهران وإسلام أباد لاستعادة الجنود (8)، الأمر الذي وجدت الأخيرة نفسها مضطرة إليه دفاعا ونفيا للاتهامات التي لا تنفك توجهها طهران إليها، خاصة بعد عملية (9) سابقة قام بها "جيش العدل" في 2014 حين اختطف خمسة من حرس الحدود الإيرانيين في فبراير/شباط قبل أن يتم إعادة أربعة منهم بعد ذلك بشهرين -وأخبار عن مقتل الخامس- وبعد تعاون باكستاني-إيراني، واتهامات إيرانية كذلك.

 

عاد خمسة (10) فقط من الجنود المختطفين بعد ذلك بشهر تقريبا، بينما لم تعد العلاقات بين الجارتين إلى طبيعتها، وإن كانت الاتهامات بين كلاهما تسبق بسنوات عمليات "جيش العدل" إلا أن التنظيم قد نبه طهران إلى ما يمكن أن تجلبه عليها حدودها مع إسلام أباد كما داخل حدودها نفسه إن لم تستطع حل الأمور قبل أن تخرج عن السيطرة.

 

     

وضعت تلك التنظيمات وسواها إيران في موقف لا تُحسد عليه محليا ودوليا، فالتخوف من أن تُطالب إحدى هذه الجماعات -أو كلها- بانفصال الإقليم كان موضع شك دائم من طهران، وإضافة لسيل الضحايا الذي بدأ نزيفه منذ 2003 وللآن -هذا فيما يخص تاريخ جماعات البلوش خاصة وليست الجماعات المسلحة الكردية أو غيرها داخل إيران-، فإن طهران قد أصبحت على شفا جُرف هاو فيما يتعلق باستتباب الأمن الداخلي الذي كانت تعول عليه للانطلاق نحو عملياتها الإقليمية بالمنطقة -في اليمن وسوريا ولبنان وغيرهم-، أما ما لم تكن تضعه طهران في حساباتها قبل سنوات قليلة، هو أن عدائها الطويل مع السعودية في حربهما الشرسة إقليميا وحرب السعودية إلى جانب الولايات المتحدة المزعومة على الإرهاب دوليا والتي تشمل إيران على رأس أولويات كلاهما، قد تدفع طهران لأن تتذوق من الكأس ذاته الذي كانت هي سببا في أن تشرب منه دول عدة في المنطقة، واختصارا فإن إيران لم تكن تتوقع أن يستغل أعدائها الخلافات العرقية والصراع الداخلي لديها لإلحاق الأذى بها في معركة دولية، وهو الأمر الذي يبدو أن كل من واشنطن والرياض على استعداد للذهاب فيه حتى النهاية.

 

معركة إيران الحقيقية.. في الداخل أم الخارج؟

تبدو مخاوف طهران من "نقل المعركة إلى داخلها" على وشك التحول إلى حقيقية، على الرغم من أن هجمات الجماعات المسلحة البلوشية حتى الآن لا تتعلق بالانفصال عن طهران،  إلا أنها تزداد شراسة ودموية بمرور الوقت، ويزداد تهديدها للصورة المحلية والعالمية التي ترسمها طهران دائما عن قوات الحرس الثوري باعتبارها فخر الصناعة الأمنية الإيرانية، صورةٌ بدأت بالاهتزاز نتيجةَ الهجمات التي أصبحت تطال جنوده وقواته التي تتمركز في إقليم بلوشستان الإيراني، ومن جهة أخرى فإنها تهدد ما سعت إيران لتسويقه دائما بأنها دولة تتسع لكافة الأقليات العرقية.

 

يتساءل وزير الخارجية الإيراني "جواد ظريف" في تغريدة له على تويتر عما إذا كان من قبيل المصادفة أن تتعرض إيران لهجمات إرهابية -كما يصفها- في الليلة التي يُقام فيها مؤتمر وارسو بهدف عزل إيران وتقويض سياساتها في المنطقة. وفيما لا يبدو أن هناك إجابة واضحة عن مثل  هذا التساؤل الآن، فإن توجهات السياسة الأمريكية بإدارتها الحالية، وعلى رأسها مستشار الرئيس الأمريكي "جون بولتون"، ووزير خارجيته "مايك بومبيو" لا يصعب توقع اختياراتها حينما يتعلق الأمر بطهران، فكلاهما يأتيان على رأس نادي "تفجير إيران" (11) والذي يتبنى وجهة نظر تعتقد أن إنهاء البرنامج النووي الإيراني بقصفه دون حاجة لانتظار نتائج المفاوضات أو العقوبات.

 

 

قد تتعارض تلك السياسة القاضية بضربة واحدة وأخيرة لبرنامج إيران النووي مع عدم رغبة الرئيس الأمريكي في الدخول في حرب جديدة، وفي وقت يمكن أن يتم فيه القضاء على أزمة إيران بحل أقل تكلفة اقتصادية وسياسية؛ تغذية الصراعات المسلحة في الداخل الإيراني من خلال منح المساعدات المادية والعسكرية للجماعات القائمة بالفعل والتي أثبتت جدارة في مهاجمة إيران بأكثر الطرق التي قد تسبب خسائر مادية ومعنوية، وفي مناطق حدودية وضمن الإقليم الهام جغرافيا على حدودها مع باكستان.

  

لا يمكن التنبؤ حتى الآن بأي من الحلول التي ستسلكها واشنطن ومن خلفها الرياض وأبوظبي وتل أبيب، وأي الثمار التي سيتم جنيها من زعزعة الداخل الإيراني، إلا أنه في الوقت الذي يبدو فيه الحل العسكري غير مضمون العاقبة والتكاليف، فإن محاولة استدراج الجماعات البلوشية -المنتمية بشكل أو بآخر للدولة في إيران- لأجل معاداتها لصالح أجندة خارجية يبدو كحل يحتاج الكثير من الجهد والتكلفة دون أن تكون هناك ضمانات للجانب الأمريكي ألا ينقلب سحرها عليها، كما حدث من قبل في أفغانستان.

المصدر : الجزيرة