لعبة الانقلابات الأميركية.. هل ينجح ترامب في تغيير النظام الفنزويلي؟
تخبرنا مطالعة بسيطة للتاريخ الحديث بما فعلته الولايات المتحدة عام 1979 بالحكومة اليسارية في السلفادور، أصغر دول أميركا الوسطى وأكثرها كثافة سكانية، عندما أطاح انقلاب عسكري مدعوم من الأولى بالثانية، وبحلول نهاية عام 1981 كان الانقلاب العسكري قد أفضى إلى حرب أهلية، بين الحكومة اليمينية الجديدة المدعومة أميركيا وبين المعارضة اليسارية المسلحة، راح(1) ضحيتها أكثر من 75 ألف شخص، لكن ما حدث في معظم فصول تلك الحرب كان بمنزلة نزهة أمام ما وقع في بلدة "إل موزوتي" النائية، شمال شرقي البلاد، والتي شهدت أبشع جولات المعركة وأكثرها قسوة ووحشية على الإطلاق.
فبعد ظهر اليوم العاشر من شهر ديسمبر/كانون الأول لذلك العام، وصل(2) 5000 جندي من وحدات كتيبة المشاة السريعة الانتشار المعروفة باسم "أتلاكتيل"، التابعة للجيش السلفادوري والمدربة أميركيا، إلى البلدة بعد عدة معارك ضمن حرب عصابات قادتها الكتيبة ضد المعارضة المتمردة في البلدان المجاورة، حيث كانت مهمتها العسكرية هي القضاء على معاقل المعارضة في المنطقة الشمالية التي اعتقد الجيش أنه يجري استخدامها كمعسكرات ومراكز لتدريب وتجنيد المعارضين.
لكن "إل موزتي" كانت حالة فريدة من نوعها في هذا الصراع إلى حد كبير، فالبلدة الصغيرة، المكونة آنذاك من 20 منزلا بسيطا على أقصى التقديرات مع كنيسة أصغر ومدرسة قريبة، لطالما سعى أهلها المسالمون للنأي بأنفسهم عن جولات المواجهات الدموية التي تشهدها البلاد، لذا فإنهم استجابوا لتطمينات الجيش الذي أعلن أن وحداته ستمر بالبلدة مرورا سريعا في طريقها لملاحقة المتمردين، غير أن ما حدث في صبيحة اليوم التالي لوصول جنود "أتلاكتيل" إلى البلدة لم يخطر على مخيلة سكانها البسطاء في أبشع كوابيسهم، حيث قام الجنود بتجميع سكان القرية بأكملهم في ساحة وقاموا بفصل الرجال عن النساء والأطفال وشرعوا في استجواب وتعذيب وإعدام الرجال ميدانيا وبشكل وحشي.
في أعقاب ذلك، بدأ الجنود في التحول إلى النساء والفتيات، حيث تم اغتصاب معظمهن قبل أن يطلق عليهن النار بشكل جماعي، وأخيرا جاء الدور على الأطفال الذين تم إعدامهم عن طريق شق الحلق قبل أن يتم التمثيل بجثثهم بتعليقها على الأشجار، وفي نهاية المطاف، اختتم الجنود عرضهم الدموي بإضرام النيران في جميع منازل البلدة.
كانت مذبحة إل موزتي عملا وحشيا حتى بمقاييس الحرب الأهلية نفسها، لذا لم يكن من المستغرب أن تُعرف(3) على أنها المذبحة الأبشع في التاريخ الحديث لأميركا اللاتينية بعد أن تمت إبادة سكان البلدة البالغ عددهم أكثر من 900 شخص، وكان من الطبيعي أن تسعى إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان لتبرئة ساحتها من المذبحة نافية حدوثها من الأساس، وواصفة التغطيات الخبرية حولها أنها نتاج دعايات العصابات الشيوعية في السلفادور، ولكنّ رجلا بعينه في واشنطن تجاهل ريغان تماما، وذهب(4) لأبعد مدى في الدفاع عن جرائم الوحدات السلفادورية المدعومة من أميركا، مثنيا على "احتراف الكتيبة القاتلة" وواصفا سجل الإدارة الأميركية في السلفادور ودعمها للحكومة اليمينية هناك بأنه "أحد إنجازاتها الرائعة"، رجل يُدعى "إليوت أبرامز".
في ذلك التوقيت كانت دول أميركا اللاتينية في بداية تعارفها مع أبرامز، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الدول الأميركية الذي تم تعيينه للتو، لكن تلك الدول، حكومات وشعوبا، لا تذكر أي أميركي اليوم على الأرجح كما تذكر "أبرامز"، فبالنسبة للسياسي الصاعد، والمساعد السابق(5) للسيناتور "هنري سكوب جاكسون" الأب الروحي لمن سيُعرفون لاحقا في السياسة الأميركية باسم المحافظين الجدد، وهم حفنة من السياسيين المحافظين الذين دعوا لتوسيع سلطة أميركا عبر فرض الديمقراطية على الدول الأخرى وتغيير النظم غير المرغوب فيها وانتهاج سياسة خارجية أكثر عسكرية وبطشا. بالنسبة له لم تكن مغامرة السلفادور سوى البداية، فعلى مدار أربعة عقود تالية عمل إليوت أبرامز كعراب للانقلابات العسكرية المخططة أميركيا، وكبوق للحروب الأميركية "القذرة" من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط، مع نفوذ قوي في اثنتين من أكثر الإدارات تأثيرا في التاريخ الأميركي اللتين تمت الهيمنة عليهما بواسطة المحافظين الجدد: إدارتا رونالد ريغان وجورج بوش الابن.
لكن ومع صعود باراك أوباما إلى البيت الأبيض عام 2009، انزوى إليوت أبرامز عن الساحة السياسية واتجه إلى العمل البحثي، حيث عمل زميلا لمجلس العلاقات الخارجية وكاتبا في عدد من الصحف، قبل أن يُستدعى اسمه إلى دائرة الضوء مجددا كمرشح لتولي منصب نائب وزير الخارجية السابق في إدارة ترامب "ريكس تيلرسون" في عام 2017، غير أن ترامب عارض ذلك الترشيح بسبب خلافاته الشخصية مع أبرامز الذي دأب(6) على مهاجمته خلال حملته الانتخابية، قائلا إن ترامب "غير لائق ليكون قائدا أعلى للقوات المسلحة".
إلا أن الرئيس الأميركي يبدو وكأنه أكثر استعدادا للرضوخ لمطالبات وزير خارجيته الحالي "مايك بومبيو"، من قام(7) مؤخرا بتعيين أبرامز مبعوثا خاصا للولايات المتحدة إلى فنزويلا، على خلفية التطورات السياسية المتلاحقة في البلاد ومساعي واشنطن لدعم الانقلاب الناعم على الرئيس اليساري "نيكولاس مادورو"، في خطوة بدا خلالها أن السياسة الأميركية قد امتطت آلة زمن عائدة أربعين عاما إلى الوراء لحظيرتها وخطتها التقليدية في أميركا اللاتينية، باحة واشنطن الخلفية والمختبر التاريخي لسياساتها "القذرة" كما تسمى للانقلابات وتغيير الأنظمة وتغذية الحروب الأهلية.
منذ صعودها كقوة كبرى في القرن التاسع، اعتبرت الولايات المتحدة نصف الكرة الغربي، والقارتين الأميركيتين على وجه التحديد، مجالا خالصا لنفوذها، ولذا فإن واشنطن أبدت قدرا ضئيلا من التسامح تجاه أي منافسة لها في هذا الفضاء، وهو ما تجلى في مبدأ مونرو(8) الذي أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق "جيمس مونرو" أمام الكونغرس عام 1823، من نص على ضمان أميركا لاستقلال جميع دول نصف الكرة الغربي، وكان ذلك يعني أن واشنطن لن تسمح لدول أوروبا بإقامة مستعمرات غربية جديدة في أميركا اللاتينية.
ظل مبدأ مونرو الأميركي خاملا سياسيا لقرابة قرن من الزمان، ولم يسمح لواشنطن بزيادة نفوذها في دول أميركا اللاتينية التي استاءت من الطريقة التي فرضت الولايات المتحدة بها نفسها عليها، واستمر هذا الوضع حتى مطلع القرن العشرين وقدوم الرئيس الأميركي "ثيودور روزفلت" الذي منح قبلة الحياة لمبدأ مونرو، حيث تم إرسال(9) الجيش الأميركي إلى بنما عام 1902، ثم إلى الدومنيكان عام 1907، ولاحقا إلى نيكاراغوا وكوبا وهندوراس عام 1912، ثم إلى هايتي وغواتيمالا عامي 1915 و1920 على الترتيب.
وفي أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية وصعود الرئيس "فرانكلين ديلانو روزفلت"، أعاد الأخير تعريف مبدأ مونرو قائلا إن الدفاع عن نصف الكرة الغربي "يعد واجبا جماعيا"، ونتيجة لذلك قام روزفلت بسحب القوات الأميركية تدريجيا من الدول اللاتينية الصغيرة التي احتلّتها، لكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز الاتحاد السوفيتي الشيوعي كقوة وحيدة منافسة لأميركا بعد انهيار أوروبا، بدأت الأخيرة تشعر بمزاحمة موسكو خاصة بعد ظهور موجة من الأنظمة "الشيوعية الثورية" في أميركا اللاتينية في مواجهة الديكتاتوريات المدعومة من الولايات المتحدة، وفي ذلك التوقيت كان عهد التدخلات العسكرية المباشرة قد أفل، وكان على واشنطن أن تطور سياسات بديلة للتعامل مع الأنظمة غير المرغوبة في فنائها الخلفي.
ولأجل ذلك كانت السياسة الأميركية المختارة (10) في تلك الفترة هي دعم وتحفيز الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الشيوعية حتى وإن كانت منتخبة ديمقراطيا، ووقعت ضربة البداية الفعلية لتلك المباراة الطويلة في غواتيمالا عام 1954، حين تدخلت الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" ودبّرت انقلابا عسكريا على الرئيس "جاكوبو أربينز غوزمان" خوفا من تحول البلاد إلى جسر سوفيتي لنصف الكرة الغربي، لتثبت بدلا منه الكولونيل "كارلوس كاستيو أرماس"، ولتدخل غواتيمالا إثر ذلك في عقود من القمع الوحشي والحروب الأهلية التي أودت بحياة ما لا يقل عن 200 ألف شخص حتى منتصف التسعينيات.
وبعد عقد واحد من الزمان، دبرت(11) واشنطن انقلابا مماثلا في البرازيل، أهم دول أميركا اللاتينية، انقلابا أطيح خلاله بالرئيس المنتخب لصالح ديكتاتورية عسكرية مدعومة أميركيا، أما في عام 1973 فكانت الجولة الأشهر من نصيب تشيلي، حيث استخدمت المخابرات الأميركية تكتيكات مماثلة ضد الحكومة المنتخبة بقيادة الرئيس الاشتراكي "سلفادور أليندي"، من أطيح به في انقلاب قاده الجنرال "أوغستو بينوشيه" والذي بقي في الحكم بعدها حتى عام 1990.
وفي عام 1976 دعمت واشنطن انقلابا عسكريا قاده الجنرال "خورخا فيديلا" في الأرجنتين ضد الرئيسة "إليزابيث بيرون"، عاشت الدولة اللاتينية على إثره حقبة دموية في تاريخها، حيث قام النظام العسكري بقتل وإخفاء أكثر من 30 ألفا من معارضيه، ورغم الانتقادات التي أصابت سمعة أميركا الدولية بسبب دعمها للنظام العسكري الأرجنتيني الذي كشف الستار عن وجهه القبيح إبان منافسات كأس العالم التي استضافتها البلاد عام 1978، حافظت واشنطن على النهج ذاته في الثمانينيات بعد صعود الرئيس رونالد ريغان، وفريقه الأميركي الجديد وفي مقدمته إليوت أبرامز.
فبعد أن تولى أبرامز ملف دعم الحكومة اليمينية في السلفادور والتي قتلت الآلاف من البشر بأسلحة أميركية وبأيدي جنود تم تدريبهم في الولايات المتحدة، فقد وجه جهوده بعدها نحو نيكاراغوا، حيث كانت عصابات "الكونترا" المدعومة أميركيا تقاتل ضد النظام الشيوعي في البلاد. فبعد أن فشل ريغان في إقناع الكونغرس بتقديم التمويل اللازم للكونترا، فقد لجأ إلى عقد صفقة مع الشيطان -من وجهة نظر الأميركيين- وهو نظام الملالي في إيران، وفي مقابل الإفراج عن الرهائن الأميركيين المحتجزين لدى نظام "الثورة الإسلامية"، وافقت واشنطن على عقد صفقة أسلحة سرية مع النظام الإيراني، وعلى الجانب الآخر فإنها استخدمت عائدات هذه الصفقة لتمويل مسلحي الكونترا.
ورغم أن أبرامز لم يكن منخرطا بنفسه في صفقة الأسلحة الإيرانية وفق ما تكشف لاحقا، فإنه عمل ممثلا للإدارة الأميركية لجمع الأموال لصالح المتمردين في نيكاراغوا، بما يشمل 10 ملايين دولار قدمتها سلطنة بروناي في صفقات مشبوهة تمت بعيدا عن أعين الكونغرس الأميركي، وقد أدان(12) الكونغرس أبرامز لاحقا إلا أنه حصل على عفو من الرئيس "جورج بوش" الأب عشية عيد الميلاد عام 1992، وفي السياق نفسه، كان أبرامز البوق الإعلامي للإدارة في قضية الكونترا، حيث استخدمه ريغان لشن حملة تشويه ضد الصحفيين الذين لعبوا دورا في الكشف عن القضية.
وفي الوقت نفسه تقريبا، كان أبرامز شخصا نشطا على محور ريغان في بنما، حيث تولى هندسة الإطاحة بالديكتاتور المتعاطي للمخدرات وحليف أميركا السابق الجنرال "مانويل نورويغا"، وبخلاف السياسة الأميركية في دعم الديكتاتوريات العسكرية في جميع أنحاء القارة اللاتينية، خرج أبرامز ليصرح بتناقض يندر رؤيته سياسيا عام 1987 قائلا إن "بنما لا يجب أن تحكم بواسطة جنرال".
وبطبيعة الحال لم تسلم فنزويلا نفسها (13) من قبل من مطرقة التدخلات والمساعي الأميركية لتغيير النظام، ووقع أبرز هذه التدخلات في عام 2002 في عهد إدارة "جورج بوش" الابن، ورغم أن أميركا اللاتينية لم تكن على رأس قائمة التلاعب السياسي الأميركية آنذاك، فإن واشنطن وإليوت أبرامز نفسه مجددا، والذي كان يشغل منصب عضو مجلس الأمن القومي آنذاك، قد تورطوا في محاولة للانقلاب على الرئيس الفنزويلي "هوجو شافيز"، وقاموا بدعم الحكومة التي أعلنها رجل الأعمال "بيدرو كارمونا"، ولكن حكومة شافيز نجحت في استعادة السلطة بعد ثلاثة أيام فقط بسبب انحياز الجيش والبيروقراطية الإدارية إليها في نهاية المطاف.
إذن كان حلم تثبيت حكومة صديقة في كاراكاس أحد الطموحات التي طالما داعبت خيال العم سام، حيث ظلت فنزويلا بصحبة كوبا ونيكاراغوا قلاعا حصينة ضد خطط الهندسة الأميركية في أميركا اللاتينية، وهو ما دفع مستشار الأمن القومي الأميركي الحالي "جون بولتون" إلى جمع الدول الثلاث تحت اسم درامي هو "ترويكا الاستبداد"، وهو ما يفسر أيضا مسارعة إدارة ترامب للاعتراف بـ "خوان غوايدو" كرئيس شرعي للبلاد في سيناريو تكراري لما حدث عام 2002 حين اعترفت إدارة "بوش" بحكومة "بيدرو كارمونا".
في الواقع، تشير الشواهد إلى أن واشنطن فعلت أكثر بكثير من مراقبة الأحداث في فنزويلا خلال العامين الماضيين، وتحديدا منذ صعود إدارة ترامب للسلطة، حيث تتهم الحكومة الفنزويلية الولايات المتحدة بالضلوع في محاولة لاغتيال الرئيس "مادورو" إبان عرض عسكري في يوليو/تموز 2017، في عملية عُرفت إعلاميا باسم درامي آخر هو العملية "هرمجدون"، لكن أميركا نفت تورطها في محاولة الاغتيال بأي شكل.
إلا أن هذا النفي الأميركي لم يكن يعني أن واشنطن قد تخلّت عن أحلامها في ترويض فنزويلا، ففي أغسطس/آب من عام 2017، وبعد أقل من شهر من واقعة الاغتيال المزعومة، بدأت(14) واشنطن في فتح قناة سرية مع مجموعة من الضباط العسكريين المتمردين ضد حكم "مادورو"، وريث عرش شافيز، قناة اتصالات سرية ضمت أحد الضباط الموضوعين على قائمة العقوبات الأميركية للمسؤولين الفاسدين في فنزويلا، حيث طلب الضباط المتمردون -قُدّر عددهم بما بين 300: 400 شخص- من الولايات المتحدة تزويدهم بأنظمة راديو مشفرة للاتصال بعيدا عن أعين الحكومة.
وخلال الاجتماعات، التي امتدت إلى الأشهر الأولى للعام الماضي 2018، قال الضباط إنهم خططوا للاستيلاء على السلطة في مناسبتين، في مارس/آذار من العام المذكور، ولاحقا في شهر مايو/أيار إبان الانتخابات الرئاسية الفنزويلية، لكن واشنطن ظلت مترددة في تقديم دعم نشط للعسكريين المنشقين، لشكها في حجم النفوذ الذي يحظون به على ما يبدو، ما دفعهم للمُضي قُدما في العملية التي عُرفت(15) لاحقا باسم "العملية دستور" بمفردهم، وكان هدف العملية هو القبض على "مادورو" في قصره وعزله عن السلطة وتحويله للمحاكمة.
ولكن الانقلاب المنتظر على مادورو تمت إعاقته في وقت مبكر بعد أن كشفت الحكومة تفاصيل المؤامرة وقامت بالقبض على المنشقين وحوّلتهم إلى محكمة عسكرية، وفي الوقت نفسه كانت الحكومة تواصل إحكام قبضتها على جميع أشكال المعارضة الفنزويلية السياسية، التي بدأت تتشكّل في صورة أقوى أعقاب انتخابات الجمعية الوطنية (البرلمان الفنزويلي) عام 2015، وهي انتخابات حصلت فيها المعارضة على الأغلبية لأول مرة منذ 17 عاما، بواقع 109 مقعد من إجمالي 167 مقعدا.
كانت نتيجة انتخابات الجمعية الوطنية هزيمة سياسية مذلة لمادورو الذي لم يكن قد أكمل عامه الثاني في السلطة، لذا فقد بدأ الرئيس في استخدام نفوذه في المحكمة العليا للتضييق على البرلمان، حيث دفع المحكمة لإبطال نتائج ثلاثة نواب لمنع المعارضة من الحصول على أغلبية الثلثين، ولاحقا قامت المحكمة عام 2017 بسحب الصلاحيات التشريعية من الجمعية الوطنية، وقام مادورو بتعيين جمعية دستورية عملت كبرلمان مواز وسيطر الحزب الحاكم على 90% من أعضائها، ما دفع الجمعية الوطنية، التي ظلت تعقد جلساتها بشكل دوري، للدعوة إلى عصيان مدني قوبل ببطش كبير من قِبل السلطة.
لكن الأمور في فنزويلا أخذت منحى آخر في شهر يناير/كانون الثاني المنصرم، وكانت البداية مع إعلان الجمعية الوطنية منح رئاستها إلى القيادي في حزب الإرادة الشعبية "خوان غوايدو" بموجب اتفاق تبادل الرئاسة بين أحزاب المعارضة، ليقوم غوايدو في الثالث والعشرين من الشهر بإعلان نفسه رئيسا مؤقتا لفنزويلا، مستندا إلى تفسيره للمادة 233 من الدستور الفنزويلي والتي تمنح الرئاسة بشكل مؤقت لرئيس البرلمان حال فراغ مقعد الرئاسة.
بالنسبة إلى غوايدو، فإن رئاسة مادورو الفعلية وصلت إلى نهايتها مع ختام فترته الرئاسية الأولى في العاشر من يناير/كانون الثاني المنصرم بسبب الشبهات المحيطة بالانتخابات الرئاسية التي عُقدت في مايو/أيار 2018 وفاز فيها مادورو بولاية ثانية، وهو تفسير يبدو أنه كان يتردد منذ عدة أسابيع ليس داخل فنزويلا، ولكن بين كبار صقور السياسة الأميركيين، الذين بدؤوا في ديسمبر/كانون الأول الماضي في فتح قنوات جادة مع المعارضة الفنزويلية التي أكدت أنها تحتاج إلى دعم المجتمع الدولي للتأثير على السياسة داخل فنزويلا.
وفي الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول بدأت(16) أصداء حملة فنزويلا تتردد بين نواب الحزبين في الكونغرس، حين قام السيناتور الجمهوري "ماركو روبيو" -أهم معارضي نظام "مادورو" في واشنطن- بصحبة السيناتور الديمقراطي "بوب ميندينديز" بإعلان مادورو رئيسا غير شرعي والاعتراف بالجمعية الوطنية بوصفها الهيئة الديمقراطية الوحيدة في البلاد، وفي الوقت نفسه كان صقور الإدارة وفي مقدمتهم وزير الخارجية "بومبيو" ومستشار الأمن القومي "بولتون" يمهّدون الطريق أمام التحرك الدبلوماسي المنتظر، حيث التقى "بومبيو" في 2 يناير/كانون الثاني الماضي مع نظيريه البرازيلي والكولومبي، حيث ناقشوا قضية أزمة المهاجرين الفارين من فنزويلا وسبل إعادة البلاد إلى "إرثها الديمقراطي" كما قيل.
وفي العاشر من يناير/كانون الثاني، وفي الوقت الذي كان مادورو يؤدي فيه اليمين الدستورية لولايته الثانية أمام المحكمة العليا، اختار "بومبيو" الحديث عن رئيس الجمعية الوطنية "غوايدو"، في حين وصف بيان وزارة الخارجية الجمعية الوطنية بأنها المؤسسة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيا في فنزويلا، أما اللحظة الحاسمة فكانت في الثاني والعشرين من يناير/كانون الثاني خلال اجتماع في البيت الأبيض حضره ترامب إضافة إلى بومبيو وبولتون وروبيو وغيرهم، ليخرج "مايك بنس" بعدها ويجري مكالمة هاتفية مع "غوايدو" ليخبره أن واشنطن ستدعمه إذا أعلن نفسه رئيسا، وهو ما حدث بالفعل وأعقبه اعتراف فوري به كرئيس من الولايات المتحدة وإحدى عشرة دولة لاتينية هي: البرازيل والأرجنتين وكندا وتشيلي وكولومبيا وكوستاريكا وغواتيمالا وهندوراس وبنما وبارغواي والبيرو.
في واقع الأمر، وقبل تلك اللحظة التي أعلن فيها غوايدو نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد، لم يكن خوان معروفا لكثير من الفنزويليين، ولكنه كان على النقيض معروفا للولايات المتحدة في وقت مبكر، وتحديدا منذ عام 2005، بوصفه(17) أحد خمسة قادة طلابيين فنزويليين تدربوا على أعمال الانتفاضات الشعبية وحروب اللاعنف في مركز العمل والإستراتيجيات اللاعنفية في بلغراد، صربيا، وهو المركز الذي تدرب فيه معظم قادة الثورات الملونة في أوروبا الشرقية، بما في ذلك المجموعات التي أطاحت بحكم سلوبودان ميلوسوفيتش في يوغوسلافيا، ويتلقى المركز دعما ماديا من عدة مؤسسات أميركية يعتقد أن بعضها تعمل كواجهات للاستخبارات الأميركية.
وفي عام 2007، كان غوايدو قد أنهى دراسته في كاراكاس وتأهب لدراسة الحكم والإدارة في جامعة جورج واشنطن، حين ساعد في قيادة أول انتفاضة مناهضة للحكومة بعد رفض السلطات تجديد رخصة راديو وتلفزيون كاراكاس وهي وسيلة إعلام معارضة في البلاد، وفي عام 2009 قام بقيادة جولة جديدة من الاحتجاجات الشعبية تبعها تأسيس حزب جديد باسم "الإرادة الشعبية"، وفي العام التالي 2010 فرض حزب الإرادة الشعبية نفسه مجددا مستغلا موجة الجفاف التي ضربت فنزويلا وتسببت في نقص هائل في الكهرباء بسبب تعطل محطات الطاقة الكهرومائية.
في أعقاب ذلك، خفتت فورة النشاط السياسي لغوايدو ورفاقه لفترة طويلة حتى وفاة شافيز وصعود نيكولاس مادورو إلى السلطة، وفي فبراير/شباط عام 2014 تم تدشين موجة جديدة من الاحتجاجات المصحوبة بأعمال شغب قادها حزب الإرادة الشعبية ليدخل في صدامات عنيفة مع الشرطة، ووقعت الموجة التالية الكبرى في عام 2017، لكنها فشلت جميعا في تحقيق أي تغيير.
إلا أن فشل موجات الاحتجاج المتتالية بسبب سوء تنظيم المعارضة وزيادة القمع الأمني الحكومي لم يفلح في إخفاء التداعيات الكارثية(18) لحكم مادورو، حيث تقلص حجم الاقتصاد الكلي للبلاد بنسبة 50% منذ توليه منصبه عام 2013، في حين انخفض إنتاج النفط إلى مستويات لم تعرفها فنزويلا منذ الخمسينيات، وتعدى معدل التضخم السنوي نسبة مليون في المئة، في حين يعيش 90% من الفنزويليين تحت خط الفقر مما دفع الملايين للهروب للخارج بحثا عن حياة أفضل، ليصنع الفنزويليون ثاني أسوأ أزمة هجرة في العالم بعد الأزمة السورية.
كانت هذه العوامل مجتمعة هي ما شجعت المعارضة على التحرك مجددا ولكن بشكل مختلف هذه المرة، حيث حرصت(19) على تجاوز خلافاتها الداخلية وطورت طرقا جديدة لحشد الساخطين ضد الحكومة، كما نجحت في تأمين دعم دولي كبير ومبكر، وبخلاف ذلك فإن المعارضين حرصوا لأول مرة على مخاطبة الجيش داعين إياه لدعم الانتقال السياسي، ومانحين تأكيدات موثوقة بأن الضباط سيحصلون على عفو شامل عن أي جرائم ارتكبوها خلال حقبة مادورو عبر إصدار قانون للعفو يوفر الحصانة للأفراد الذين سيعملون لاستعادة الديمقراطية في فنزويلا.
ويبقى الجيش صاحب الكلمة السياسية الحاسمة في النزاع الفنزويلي القائم، حيث تسيطر القوات المسلحة فعليا على الوزارات الحكومية والنفط وتوزيع الغذاء والأمن الداخلي، ولا يتمتع مادورو بولاء شخصي داخل صفوف الجيش فسلطته تعود إلى عام 2013 فقط وليس لديه خلفية عسكرية، لكن الدعم الذي يتمتع به من قِبل كبار الرتب في الجيش يرجع إلى تسامحه مع عدد من الأنشطة غير الشرعية التي يمارسها بعض قادة الجيش مثل التكسب من المخدرات، إضافة إلى هيكل الحوافز القوي الذي تمنحه الحكومة للعسكريين.
في المقابل، فإن صغار الرتب وجنود الجيش يشاركون معاناة المواطنين من الأزمة الاقتصادية في البلاد، لذا فإن المعارضة تراهن على إمكانية أن تمثل هذه الحقيقة ضغطا على قادة الجيش للانحياز ضد الرئيس، ولكن الكفة في هذا الصدد لا تزال تميل لصالح مادورو الذي أعلن قادة الجيش دعمهم له بشكل علني في 23 و24 يناير/كانون الثاني الماضي، وهو ما يرفع سقف الرهانات إلى أعلاه حول الدور الذي ستلعبه الانحيازات الدولية في أزمة فنزويلا، وإذا ما كانت الدولة اللاتينية ستشهد تدخلا عسكريا قريبا من قِبل أنصار المعارضة الدوليين أو حلفاء الحكومة لترجيح إحدى الكفتين في الصراع الحالي.
على الرغم من أن الأهمية الجيوسياسية لفنزويلا قد تراجعت(20) بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة مع تراجع إنتاجها النفطي، وارتفاع تكلفة استخراج النفط الفنزويلي بالمقارنة مع تكاليف الاستخراج حتى بالنسبة للقوى النفطية الجديدة مثل الولايات المتحدة، مما جعل تأثير فنزويلا في سوق النفط العالمي مماثلا لتأثير دول مثل أنجولا أو نيجيريا، فإن كاراكاس تظل مهمة بشكل خاص للعديد من القوى الكبرى والإقليمية لأسباب مالية أو طاقوية أو أمنية، وفي حين تضع واشنطن رهاناتها كلها على المعارضة، فإن قوى أخرى في مقدمتها كوبا وروسيا والصين لا تزال تراهن على بقاء مادورو في السلطة.
وتبقى كوبا صاحبة(21) الدوافع الأكبر قصيرة الأجل للرهان على الحكومة الحالية، حيث تخشى هافانا من أن انتقال فنزويلا بعيدا عن الحكم الشيوعي سوف يأتي مصحوبا بفقدانها للشحنات الضخمة والمجانية من الوقود الفنزويلي، حيث تستهلك كوبا حاليا نحو 50 ألف برميل يوميا من النفط الفنزويلي وهو ما يُمثّل ثلث استهلاك الجزيرة، ومن المرجح أن توقف أي حكومة جديدة في كاراكاس هذه الشحنات بشكل كامل.
بخلاف ذلك، فإن لدى الحكومة الكوبية أصولا عسكرية واستخباراتية كبيرة في فنزويلا في الوقت الراهن، وعلى مدار العقدين الماضيين، ساعدت كوبا الدولة الفنزويلية في التدريب العسكري وتبادل المعلومات الاستخباراتية، كما تعاون البلدان معا في مراقبة المعارضين السياسيين، وفي السياق نفسه، فإن سقوط الحكومة الصديقة لهافانا في فنزويلا سوف يترك كوبا تقريبا كآخر المعاقل المناوئة للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية بصحبة غواتيمالا، ما يعني أن الدور سيأتي عليهما حتما.
وبتجاوز كوبا الصغيرة وذات التأثير المحدود نسبيا، فإن لدى روسيا هي الأخرى أسبابها للرهان على نظام مادورو، وهي أسباب تتنوع بين الاقتصادي والجيوسياسي. فعلى الشق الاقتصادي، فإن الحكومة الفنزويلية تدين بمبالغ طائلة من الديون للشركات الروسية وعلى رأسها عملاق الطاقة "روسنفت"، ومن الناحية النظرية فإن كاراكاس مطالبة بتسديد 380 ألف برميل يوميا من النفط الخام لصالح موسكو، ومن المرجح أن أي حكومة جديدة في فنزويلا سوف تتخلف بشكل كامل عن سداد القروض الروسية إضافة إلى الأموال المستحقة لموسكو نظير توريد الأسلحة إلى كاراكاس، أما الجانب الجيوسياسي فإن فنزويلا تتناسب بشكل واضح مع الإستراتيجية العالمية لروسيا في استخدام صراعات صغيرة وغير مكلفة للحفاظ على الضغط الإستراتيجي على واشنطن.
في ضوء ذلك، ربما تكون هذه الدوافع كافية لفهم الأنباء المتداولة عن قيام موسكو بنشر مرتزقة لحماية مادورو، ولتفسير ما أوردته(22) بعض التقارير عن قيام روسيا في ديسمبر/كانون الأول الماضي بنشر قاذفات إستراتيجية من طراز "تي يو 160 بلاك جاك" في فنزويلا عبر محطات للتزود بالوقود في جزيرة سال في الرأس الأخضر على سواحل أفريقيا، وهي مهبط إستراتيجي تم بناؤه إبان الحرب الباردة ولا تزال موسكو تستخدمه إلى اليوم.
ويرى المسؤولون الروس أن نشر هذه القاذفات يعد ردا مناسبا على قيام حلف الناتو بنشر قواعد قريبة من الأراضي الروسية، حيث يمكن لهذه القاذفات حمل صواريخ يصل مداها إلى 5500 كم ويبلغ حجمها واحد ميجا طن، إضافة إلى قدرتها على حمل رؤوس نووية، ما يجعلها قادرة على استهداف الولايات المتحدة بمجرد إقلاعها من فنزويلا، وهو نفوذ يمكن لموسكو أن تستخدمه للتفاوض مع واشنطن حول قضايا إستراتيجية أخرى، مثل نشر الصواريخ في أوروبا، حال نجحت الإدارة الأميركية في الإطاحة بمادورو.
ولكن من بين جميع القوى الأجنبية التي لها مصلحة في فنزويلا، فمن المرجح أن تكون الصين الأكثر تضررا(23) من انهيار حكومة مادورو إن حدث، حيث لا تزال كاراكاس مدينة لبكين بأكثر من 23 مليار دولار تسددها بصادرات النفط الخام، كما أن سقوط النظام الفنزويلي الحالي سيحول دفة المبيعات العسكرية الفنزويلية بشكل تقليدي من بكين إلى واشنطن، لذا فمن المرجح أن تواصل الصين دعمها للنظام الحالي في مواجهة حكومة المعارضة المدعومة من إدارة ترامب.
ويمكن أن يترك هذا السيناريو فنزويلا مع حالة تعادل للقوى أو ميل نسبي لكفة الحكومة القائمة بحكم إمساكها الفعلي بالسلطة، وفي المقابل ستسرع(24) الولايات المتحدة من الإجراءات العقابية ضد المسؤولين والكيانات الفنزويلية وبالتحديد شركة النفط المملوكة للدولة، وتخفيض وارداتها من النفط الفنزويلي، وفي الوقت نفسه ستحرص واشنطن(25) على أن تذهب عائدات الشركات الفنزويلية العاملة في أراضيها، وعلى رأسها شركة "سيتجو" ذراع التكرير التابع لشركة النفط الوطنية الفنزويلية، ستحرص أن تذهب العائدات إلى حسابات تتحكم فيها المعارضة.
وبعد ذلك كله، يبقى خيار التدخل العسكري لتغيير النظام أحد الخيارات التي ترفض واشنطن استبعادها بشكل كلي من الطاولة، حيث تدرك أن الجيش الفنزويلي يعاني(26) من ضعف كبير، وأنه في الحين الذي قد تحتفظ فيه حكومة مادورو بإخلاص كبار ضباط الجيش الفنزويليين، فإن الحال ليس كذلك مع الجميع في صفوف قواعد الجيش، فضلا عن معاناة الجيش من سلسلة من المشاكل الأخرى التي تشمل سوء التدريب، بخلاف المحاباة والمحسوبية وغياب التكامل بين الخدمات، وهو ما يعني أن الجيش الفنزويلي ورغم كونه نظريا من أقوى الجيوش في أميركا اللاتينية، فإنه سيواجه مشاكل في الدفاع عن النظام ضد أي هجوم عسكري ضده لا سيما من البنتاغون.
لكن ذلك لا يعني(27) أن طريق واشنطن نحو التدخل العسكري في فنزويلا سيكون مفروشا بالورود، وسوف يعطي أي تحرك عسكري أجنبي الفرصة للحكومة لإظهار المعارضة بوصفها قوى وكيلة لدول أجنبية، ويمكن أن يساعدها في حشد الالتفاف الشعبي حولها للدفاع ضد محتل أجنبي، فضلا عن الصعوبات اللوجستية المرتبطة بأي غزو بري محتمل، حيث سيحتاج الأمر إلى قوة كبيرة بسبب الحجم الكبير للبلاد، وفي حين سيواجه أي غزو عن طريق البحر المخاطر التقليدية للعمليات البرمائية، فإن الطريق إلى غزو بري من كولومبيا أو البرازيل سوف يواجه بحقيقة التضاريس المعقدة التي ستصعب المهام اللوجستية وخطوط الإمداد التي ستكون معرضة لحروب العصابات، خاصة إذا تحولت الحكومة لخوض الحرب باستخدام تشكيلات مسلحة غير نظامية مما يهدد بزيادة تكلفة العملية العسكرية وتوابعها وزيادة مدتها، هذا بافتراض(28) أن دولا مثل البرازيل وكولومبيا ستوافق على المساهمة في مثل هذا الغزو العسكري بادئ ذي بدء، وهو أمر غير مرجح.
وختاما، هناك الضرر البالغ(29) الذي سيصيب السمعة الأميركية فيما بعد أوباما مع عودتها لاستخدام القوى العسكرية لفرض تغيير الأنظمة في محيطها الجغرافي، ما سيتسبب عاجلا أو آجلا في انهيار أي دعم دولي للمعارضة وتحويل المعركة إلى صراع فنزويلي أميركي وليس صراعا داخليا فنزويليا كما يُسوّق له حاليا، وإذا أضفنا هذه العوامل جنبا إلى جنب مع الميل النظري لترامب لتقليص التدخلات العسكرية المباشرة لإدارته، فإن الخيار العسكري الأميركي لا يعدو كونه ورقة للمساومة على الأقل في الوقت الراهن.
ومع استبعاد التصعيد العسكري، يعود المشهد من جديد إلى حالة تعادل نسبي للقوى، ويبقى رهان الصقور أن العقوبات الأميركية المغلظة ستدفع نظام مادورو للانهيار في نهاية المطاف تحت وطأة الضغوط الاقتصادية وربما تجبر الجيش على التمرد، لكن في المقابل يبقى احتمال بقاء مادورو في السلطة بدعم من الجيش وحلفائه الخارجيين أمرا قائما، وهو ما سيترك فنزويلا أمام سيناريوهين لا ثالث لهما: إما انخراط النظام والمعارضة في عملية سياسية انتقالية بوساطة دولية تشمل جدولا زمنيا للانتقال السياسي، وإما بقاء النظام على شكله الحالي ولكن مع المزيد من المعاناة الاقتصادية والمزيد من العزلة الدولية، وفي هذا السيناريو فإن مقامرة غايدو ورفاقه ستنتهي بهم إما إلى السجن وإما إلى المنفى على الأرجح.