شعار قسم ميدان

لغز البنك المركزي.. لماذا يريد حفتر أموال طرابلس؟

ميدان - ليبيا والصديق الكبير
اضغط للاستماع

   

بنهاية عام 2017، لم تكن هناك إلا قصة واحدة تشغل الجميع في ليبيا حول استيلاء الكتيبة 106 التابعة لما يسمى بـ "الجيش الوطني الليبي"، وقائدها "صدام حفتر" نجل "خليفة حفتر" قائد ميليشيات الجيش الوطني، على ملايين الدولارات من خزائن فرع البنك المركزي بمدينة بنغازي؛ بعد اجتياحها للفرع واحتجاز مديره الذي لم يكن سوى فرج منصور، نائب وزير الداخلية بحكومة الوفاق الوطني.

  

انشغلت الصحف حينها بمتابعة مصير الأموال المنهوبة، خاصة وأن تقرير (1) فريق الخبراء المعني بليبيا والتابع لمجلس الأمن الدولي وصاحب المصدر الأول للخبر، قال إن الأموال انتهت إلى أيدي كبار قادة "الجيش الوطني" بعد خروجها من البنك، وليس إلى مقر آخر كما صرح البنك المركزي التابع للمنطقة الشرقية، وبينما لفت اسم ابن اللواء المتقاعد حفتر جل الاهتمام بتورطه وكتيبته في العملية، انتبهت قلة قليلة فقط لجزء آخر من التقرير يتحدث عن عمليات تهريب النفط عبر الموانئ الخاضعة لسيطرة "الجيش الوطني" بشرق ليبيا، وهي عمليات تهريب قام ثلاثة من صحافيي "وول ستريت جورنال" بالتحقيق فيها قبل التقرير الأممي(2)، ورصدوا أيضًا مزاعم مساعدة الإمارات العربية المتحدة لحليفها حفتر على تهريب النفط وتصديره بشكل مستقل عن مؤسسة النفط الوطنية في العاصمة طرابلس، بما يخالف قرارات(3) الأمم المتحدة باعتبار مؤسسة النفط هي الوحيدة المخول لها التعامل دوليا في عمليات التصدير والاستيراد لصالح الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس.

   

  

لم تتوقف محاولات شرق ليبيا، بقيادة برلمان طبرق و"الجيش الوطني"، عن السعي لتصدير النفط بشكل مستقل منذ عام 2016، كما نص تقرير "وول ستريت جورنال" الصادر في الثالث عشر من يوليو/تموز للعام الماضي 2018، فيما ذكرت تحقيقات التقرير الأممي، الصادر في أغسطس/آب من نفس العام، أن آخر محاولة لتهريب النفط الليبي -قبل صدور التقرير- قد أجهضت في مايو/أيار دون معرفة هوية المُشتري، أما تقرير "وول ستريت" فقد ذكر أنه في نفس شهر المحاولة الأخيرة، كانت قد أحبطت دوريات الاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط -خلال بحثها عن مهاجرين غير شرعيين- عملية نقل وتهريب نفط ليبي عبر ناقلة إماراتية كانت تقوم بتحميله من إحدى موانئ الشرق دون موافقة المؤسسة الوطنية للنفط، مما دفع الكثيرون للتكهن بأنهما نفس العملية المذكورة، وإن كان التقرير الأممي أكثر تحفظًا.

  

كانت تلك واحدة ضمن قائمة ليست بالقصيرة من محاولات تصدير النفط الليبي خارج الإطار القانوني الذي وضعته الأمم المتحدة، وضمت إلى جانبها تعاقدات وقعتها حكومة الشرق، ومعها مؤسسة النفط التابعة لها والتي أسسها حفتر ككيان موازٍ لمؤسسة طرابلس، مع 18 شركة بعضها يقع مقره في الإمارات لتصدير ملايين من براميل النفط الليبي للخارج في الفترة ما بين عام 2016 وحتى منتصف 2018.

  

استمرت تلك المحاولات بطريقة أو بأخرى بعد حادثة الناقلة الإماراتية المذكورة، وإن بدا بنهاية العام الماضي أن سعي حفتر للاستقلال عن المؤسسة الوطنية في طرابلس قد باءت جميعها بالفشل، لذا فقد استهل الجنرال العام الحالي بخطة جديدة بدأها بالتوسع جنوبا في ليبيا، بما ضمن له وقوع أكثر من ثلثي مناطق إنتاج النفط تحت سيطرته، ثم وبحلول شهر أبريل 2019، قرر الجنرال المتقاعد بدء محاولة الاستيلاء على مؤسسة النفط الوطنية ذاتها، أو بكلمات أخرى أدق؛ الزحف نحو طرابلس للسيطرة عليها.

    

  

لم يكن دافع حفتر الوحيد للاستيلاء على العاصمة هو السيطرة على المؤسسة النفطية، وإن شكلت أموال النفط وسيلة عظمى لتعويض نقص التمويل المالي الذي منعته عنه الإمارات -أهم حلفائه الدوليين- بحجة أنه «قد يسيء استخدامها»، وإنما تمثل في دافع آخر بضرورة سيطرة حفتر على مركز آخر من مراكز القوى في ليبيا وهو البنك المركزي، حيث تذهب كافة عائدات النفط بشكل منتظم إلى فرعه الرئيس في العاصمة، بما يخول للحكومة التحكم في الميزانية الليبية.

    undefined

  

لم يكن باستطاعة حفتر، حتى مع سيطرته على ثلثي مساحة البلاد تقريبا بجانب سيطرته على موارد النفط، لم يكن باستطاعته التحكم في عائدات هذه الموارد؛ المحظورة عليه تارة بسبب قرارات الأمم المتحدة، وتارة أخرى بسبب النظام المالي المعقد والبسيط في آن، والذي يعود -للمفارقة- للنظام الذي أنشأه الرئيس الراحل معمر القذافي منذ سنوات طويلة للتحكم في تدفق عائدات النفط من العملة الصعبة عبر البلاد، لذا وفي سبيل تحقيق تعهده القديم بالسيطرة على طرابلس، ومن ثم «توحيد ليبيا كاملة تحت قيادته» كما يقول، توجب على الجنرال السبعيني السعي لخوض معارك لم تتوقف منذ ستة أسابيع تقريبًا على تخوم طرابلس، معارك هدفها الأول هو النفط والمال قبل أن يكون حلم جنرال متقاعد بالسلطة.

  

من يحرس أموال ليبيا؟

undefined

  

احتفظ النظام المصرفي في ليبيا بقوته رغم هشاشة الدولة وانقسامها بعد ثورة فبراير/شباط 2011، ويعود ذلك لنظام (4) القذافي المالي الذي أنشأه العقيد الراحل أثناء حكمه الطويل وقبل مقتله، وفيه يتم استلام جميع عائدات صادرات النفط الليبي بالدولار الأمريكي وتحويلها مباشرة لحسابات خاصة بالمؤسسات المالية الواقعة في طرابلس وما حولها من مدن الغرب الليبي، والتي يتحكم فيها البنك المركزي بالعاصمة بشكل مباشر.

  

لم يكن ذلك هو السبب الوحيد في بقاء البنك على رأس مراكز القوى في ليبيا ما بعد القذافي، ففي عام الثورة، وضمن طوفان من التغيرات السياسية التي شهدتها الساحة في ليبيا؛ جاء تعيين الليبي المثير للجدل(5) "الصديق الكبير" محافظا للبنك المركزي سببا آخر لاحتفاظ البنك بقوته حتى هذه اللحظة، خاصة مع معاداة الجنرال حفتر لكل ما يمثله "الكبير"؛ فقد كان الأخير محسوبا -في بداية الثورة- على جماعة الإخوان المسلمين ومن خلالهم أتى تعيينه كمحافظ للبنك.

  

كان هذا في حد ذاته سببا كافيا لمحاولات حفتر مرة بعد أخرى الإطاحة بالكبير، وكانت أولى هذه المحاولات في 2014 حينما أعلن برلمان طبرق -المدعوم من حفتر- عزل الكبير وتعيين نائبه "علي الحبري" بديلا له كمحافظ للبنك المركزي، وثانيها في العام الماضي حينما صدر قرار مشابه بتعيين "محمد عبدالسلام شكري" في المنصب ذاته، لكن كلا القرارين لم يتعد حدود الأوراق التي كتب عليها، بينما ظل الكبير محتفظا، ليس فقط بمنصبه، ولكن بالمفاتيح السرية لحسابات البنك المركزي، والتي تحوي ما يزيد عن 70 مليار دولار من احتياطات النقد الأجنبي التي تمتلكها ليبيا.

       

    

يمكن القول إن العلاقة بين حفتر-الكبير تختصر الأوضاع في ليبيا ما بعد الثورة، ففي حين أتت عودة حفتر عام 2014 -بحربه على الإسلاميين فيما أسماه "عملية الكرامة"- على ما تبقى من محاولات جمع الشمل بين الأطراف المتحاربة في ليبيا، فإنها كذلك رسمت بداية الانقسام السياسي بين المجلس الرئاسي في طرابلس وغرب ليبيا وبرلمان طبرق في شرقها، وإن ظلت بقايا روابط تجمع طرفي العلاقة بعضهما ببعض رغم الانقسام، ويتحكم شيئان فقط في مدى قوتها من عدمه: المال والنفط.

  

كان المجلس الرئاسي في طرابلس ومعه حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، والتي تشكلت(6) بموجب اتفاق الصخيرات عام 2015، يتحكمان في غربي ليبيا؛ بما يشمل العاصمة طرابلس وما حولها من مدن، بينما كان برلمان طبرق في شرق ليبيا يحتفظ بقوة ودعم "الجيش الوطني الليبي" الذي أنشأه حفتر بدعم فرنسا والإمارات والسعودية ومصر، وفيما ظل الصراع السياسي بين الشرق والغرب قائما على من يمتلك الحق في حكم البلاد، كان هناك نوع من التوافق -غير المعلن- على ضرورة استمرار تدفق النفط وعائداته عبر البلاد ومنها إلى الخارج حيث تعود بالعملة الصعبة التي تشكل ركيزة الاقتصاد الليبي.

  

وعليه، فقد استمر البنك المركزي في دفع رواتب موظفي الدولة في مناطق الشرق الواقعة تحت سيطرة حفتر، بل واستمر في دفع رواتب الجنود(7) المسجلين لديه حتى عام 2014، والذين انضم بعضهم للحرب مع حفتر ضد طرابلس نفسها فيما بعد، وفي المقابل تابع النفط الليبي تدفقه من المناطق الواقعة تحت نفوذ حفتر إلى موانئ مؤسسة النفط الوطنية ومنها للتصدير إلى خارج البلاد.

    

  

حظيت تلك العلاقة بالعديد من الاختبارات الصعبة، كتلك المرات التي حاول فيها حفتر تصدير النفط الليبي بشكل مستقل بعيدا عن أيدي مؤسسة العاصمة، وكذلك عندما اتخذ قراره بإنشاء مؤسستي النفط الوطنية والبنك المركزي في الشرق، كمؤسسات موازية لتلك التي بطرابلس؛ كي تمكنه من تصدير النفط والتحكم في عائداته بشكل مستقل، وهو ما تسبب -بإحدى المرات- في قطع(8) حفتر لإمدادات النفط لعدة أسابيع في يونيو/حزيران للعام الماضي عن مؤسسات العاصمة، متسببا في خسارة ليبيا لما يقارب المليار دولار، وحرمان الأسواق العالمية من 800 ألف برميل كانت تصدرها ليبيا يوميا في تلك الفترة.

  

لم يكن إذن التوافق بين شرقي وغربي ليبيا مستقرا بحال، بل كان مرهونا أغلب الأمر بمدى سير خطة عمل بعثة الأمم المتحدة في ليبيا بقيادة مبعوثها "غسان سلامة"، وهي خطة بدا أنها فشلت بشكل كلي في تحفيز أي من السراج أو حفتر على اتباعها، لينتهي الأمر مطلع العام الحالي بإعلان الأخير الحرب على طرابلس ضاربا عرض الحائط بدعوات الأمم المتحدة أو حتى بمعارضة فرنسا "الضمنية" باعتبارها أكبر داعميه الدوليين، لكن وبمعرفة أن أي من داعمي حفتر الدوليين لا يوفر له على الأغلب المساعدات المادية اللازمة لدفع رواتب الجند والعتاد والتجهيزات لمعركة يبدو الآن أنها ستستمر لفترة من الزمن، فقد ظل التساؤل عن الكيفية التي يحصل بها حفتر على الأموال محط كثير من الاهتمام، وإن بدا أن إجابة هذا السؤال قد ظهرت إلى العلن قبل الحرب بسنوات، وتحديدا في الثامن من فبراير/شباط 2016، حينما أعلن "بيتر ميليت" -سفير بريطانيا السابق لدى ليبيا- في جلسة استماع(9) له أمام مجلس اللوردات البريطاني أن البنك المركزي الليبي هو ذاته من يمول استمرار الحرب الأهلية هناك.

   

معركة البنوك

كانت إجابة "ميليت" عن السبب الذي من أجله يرى أن البنك المركزي في طرابلس هو من يمول الحرب الأهلية في ليبيا بقصة أخبره إياها أحدهم، حدثت عام 2012، حينما سدد أحد رجال ميليشيات العاصمة المسلحة سلاحه إلى رأس وزير المالية حينها وقال له: وقع هذا الشيك.

   

السفير البريطاني بليبيا
السفير البريطاني بليبيا "بيتر ميليت" (مواقع التواصل)

   

كان من السهل بعد انتشار هذه القصة إقناع المسؤولين في العاصمة أنه من الأيسر منح الميليشيات المسلحة المال مقابل الأمن، كما يروي ميليت نفسه؛ خاصة مع تزايد عمليات الخطف والقتل التي طالت مسؤولين عدة في قلب العاصمة طرابلس وما حولها في تلك الفترة، لكن ما بدأ كمقايضة للأمن مقابل المال، تطور فيما بعد لتصبح هذه الأموال جزءا لا يتجزأ من تمويل الحرب الأهلية الممتدة اليوم بطول ليبيا وعرضها.

   

تتوافق القصة التي رواها ميليت مع ما تم من تغيرات سياسية مالية أجراها "الكبير" بعد توليه رئاسة البنك المركزي في 2011، فقد كان العديد من رجال الميليشيات المسلحة في ليبيا عامة، وطرابلس والغرب الليبي خاصة، من رجال القذافي السابقين الذين اختاروا البقاء بعيدا عن الصراع بعد رحيله على أمل إيجاد حل سلمي للأزمة، وبعد بدء معركة الكرامة التي قادها حفتر في 2014 ضد الإسلاميين، اختار العديد منهم العودة مرة أخرى إلى القتال، وباختلاف مواقعهم من القتال كان هؤلاء لايزالون يحصلون على مرتباتهم بشكل منتظم من ميزانية الدولة التي يدفعها البنك المركزي بطرابلس.

   

كان رد فعل الكبير في مقابل الزيادة الضخمة لأعداد المقاتلين في الجماعات المسلحة ما بعد 2014 هو فرض إجراءات تقشفية انتهت إلى قطع مصادر التمويل عن بعض هذه الجماعات، بينما عززت الإجراءات ذاتها دور جماعات أخرى قريبة من السلطة في طرابلس وما حولها، وكانت جماعة "ردع" واحدة من المجموعة الثانية، إذ يعتقد أنها توفر حماية أمنية يومية للكبير إلى جانب توفير الحراسة لمطار معيتيقة باعتباره -حينها- المطار الوحيد الذي يتم استخدامه في العاصمة، وفي المقابل تحصل "ردع" وغيرها على التمويل اللازم من ميزانية الدولة ومن صلاتها بمسؤولين داخل المنظومة المالية في ليبيا؛ مسؤولين قادرين على تمرير نصيب من العملات الصعبة إلى رجال الميليشيات وقادتها.

    

توجه حفتر لبدائل أخرى لأجل الحصول على التمويل، ومنها التعامل مع تجار السيارات والمركبات، إضافة لعمليات تهريب النفط وبيعه داخل حدود ليبيا وخارجها
توجه حفتر لبدائل أخرى لأجل الحصول على التمويل، ومنها التعامل مع تجار السيارات والمركبات، إضافة لعمليات تهريب النفط وبيعه داخل حدود ليبيا وخارجها
   

أثارت هذه الإجراءات التقشفية حفيظة برلمان طبرق في الشرق وعلى رأسه حفتر، إذ تعارضت مع سعيه لتجنيد المزيد من رجال الميليشيات لأجل الحرب من ناحية، ومن ناحية أخرى مع عمليات توظيف واسعة جرت في الشرق -ضمن عملية الانقسام عن الغرب وإنشاء مؤسسات بديلة خاصة بالشرق وحده، ما أدى لتوجه حفتر لبدائل أخرى لأجل الحصول على التمويل، ومنها التعامل مع تجار السيارات والمركبات، إضافة لعمليات تهريب النفط وبيعه داخل حدود ليبيا وخارجها، وليس انتهاءً ببيع السندات الحكومية وطبع العملات في روسيا (10) ومن ثم إغراق أسواق الشرق الليبي بها.

   

لم يكن طبع العملات في الخارج وتوزيعها في ليبيا عمل حفتر وحده في واقع الأمر، فالبنك المركزي في طرابلس هو الآخر يقوم بطباعة عملاته في بريطانيا (11)، ما أدى لخلق أزمة منبعها وجود عملتين مختلفتين في الشكل والعلامة المائية والأرقام التسلسلية في أسواق ليبيا، وبما يجعل تعامل البنوك على كلا الجبهتين بعملة الآخر شبه مستحيل.

    

لم تكن تلك الأزمة الوحيدة التي تواجهها البنوك، أو يواجهها بنك طرابلس المركزي للدقة، فعلى عكس عملية استيراده هو للعملة والتي تتم ضمن منظومة ليبيا المصرفية الرسمية، كانت عمليات استيراد الشرق للعملة خارج هذه المنظومة بشكل كلي، وبما قد يشكل أزمة اقتصادية ضخمة في حال توحد البنكين من جديد على المدى البعيد، لكن وعلى المدى القريب فقد رفع من قيمة العجز والدين العام في ليبيا إلى 130 مليار دينار ليبي، كان نصيب ديون الغرب الليبي منها ما يعادل 68 مليار دينار، بينما بلغت قيمة السندات التي باعها شرق ليبيا بهدف دفع رواتب الموظفين والجنود، بلغت 35 مليار دينار تقريبا مضافا إليها عشرة مليارات دينار أخرى كانت قد طبعتها روسيا لبنك الشرق المركزي خلال السنوات الثلاث الماضية.

   

إن حربا طويلة الأمد تبدو آخر ما يحتاجه حفتر بظل نقص الإمداد المالي لجيشه
إن حربا طويلة الأمد تبدو آخر ما يحتاجه حفتر بظل نقص الإمداد المالي لجيشه
 

تابعت الأزمة الاقتصادية تطوراتها في الشرق، ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أعلن برلمان طبرق تأسيس "سلطة الاستثمار العسكري" (12) والتي تهدف إلى: خلق وتهيئة فرص اقتصادية لتحقيق اكتفاء ذاتي نسبي للجيش الوطني الليبي لتغطية بعض تكاليفه ومصروفاته عن طريق تنوع مصادر الدخل كما نص القانون الخاص بشأنها، وبكلمات أخرى تهدف لخلق نموذج مشابه لذلك الذي يحدث في مصر الآن حيث يمتلك الجيش سيطرة على مساحات واسعة من الأنشطة الاقتصادية المدنية، ومن خلال شركات معفية من الضرائب ورسوم الواردات وفقا للقانون.

   

تثير مثل هذه الهيئة تخوفات كبرى من تحكم الجيش في الاقتصاد الليبي فيما بعد، خاصة إذا ما استطاع حفتر الفوز في معركته على حدود طرابلس، لكن وللآن فقد بقيت العقبة الأكبر أمام الشرق لتنفيذ هذه الاستراتيجية -كما تفعل مصر- هي الأموال، فعلى الرغم من أن ميزانية ليبيا تبلغ حوالي 40 مليار دينار سنويا (بما يعادل 29 مليار دولار)، يتحكم فيها البنك المركزي الخاضع لإدارة حكومة السراج في طرابلس، فإن ما يحصل عليه الشرق على سبيل المثال من مرتبات للجنود المسجلين حتى 2014 يبلغ 18 مليون دولار (25 مليون دينار تقريبا)، بينما تبلغ ميزانية الرواتب الفعلية في الشرق ما يعادل 400 مليون دينار شهريا، يخصص منها 245 مليون دينار لرواتب جنود الجيش الوطني الليبي.

   

لم تغير موافقة طرابلس الأخيرة على دفع رواتب موظفي الحكومة في الشرق حتى عام 2018، وبما يرفع الميزانية المخصصة لذلك إلى 177 مليون دينار شهريا، لم تغير في الأمر شيئا بالنسبة لحاجة الشرق الملحة إلى المال لشراء المعدات العسكرية وتجنيد المزيد من الرجال وإرضاء قادته في الجيش، مضافا إليهم جميعا رغبة حفتر ببناء ما أسماه (دولة الرفاه) في الشرق، وبما يشمله هذا من عمليات إعادة إعمار المدن التي دمرتها الحرب، وبما يتطلب ميزانيات ضخمة لا توفرها له حتى الآن أعمال الجيش الوطني الاقتصادية في الشرق، بينما قد يوفرها له بالتأكيد البنك المركزي في طرابلس، فقط إذا كان يملك السيطرة عليه.

  

اختيار الحرب

  

اعتبرت حملة حفتر الخاصة بالزحف على طرابلس أكبر (13) حملة عسكرية تخوضها البلاد منذ الإطاحة بالقذافي عام 2011، حملة ظن حفتر أنه سيبدأها وينتهي منها سريعا وهو على رأس الحكم في العاصمة والبلاد جميعها، وكان مبرره في هذا -كما تصيغ العديد من التحليلات الأمر- هو تصاعد حدة الخلافات بين ميليشيات العاصمة بعضها وبعض من ناحية، وبينها وبين حكومة الوفاق من ناحية أخرى، ما جعل حفتر يعتقد أن بإمكانه عقد تحالفات مع بعض هذه الميليشيات -كما فعل في الجنوب- وبما يمهد له الطريق وصولا لطرابلس. أما ما حدث بالفعل على أرض الواقع فلم يكن مشابها لهذا من قريب أو من بعيد.

   

كانت حرب حفتر على العاصمة في حقيقة الأمر علامة تهديد لمصالح هذه الميليشيات في طرابلس، وسواء كانت هذه المصالح هي الأرباح القادمة من أعمال شبكات التهريب والإتجار في السلاح والبشر أو التربح من وراء موقع هذه الميليشيات كحامية للعاصمة ومؤسساتها ومسؤوليها، وبكون رجال هذه الجماعات على رأس قوائم مرتبات الحكومة وضمن ميزانية الدولة التي يصدرها البنك المركزي، فإن احتلال حفتر بجنوده للعاصمة إن حدث سيمنح رجاله أفضلية لا يمكن لجماعات العاصمة المحسوبة في مجملها على التيارات الإسلامية باختلافها أن تحصل عليها بوجود حفتر على رأس السلطة.

   

لم يمنع هذا التوافق والصمود غير المتوقع لميليشيات العاصمة ومصراتة والزنتان في الغرب الليبي في مواجهة هجوم حفتر، لم يمنع الأخير من متابعة حربه على العاصمة للآن، وعلى الرغم من أن حربا طويلة الأمد تبدو آخر ما يحتاجه حفتر في ظل نقص الإمداد المالي لجيشه، فإن خطوط الإمداد العسكري لقوات حفتر لم تتوقف بين مدينتي بنغازي في الشرق وحتى العاصمة طرابلس في الغرب، وبما يشمله هذا من عربات تحمل ذخيرة وتعود بالمصابين لتذهب مرة أخرى مُحمَّلة بالطعام والاحتياجات الطبية للجنود.

     

تهدد تصرفات بنك طرابلس قدرة حفتر على الاستمرار بعملياته العسكرية، لكنها بالنهاية قد لا تكون ذات تأثير حقيقي إذا تدخل لاعب خارجي للوفاء بمتطلبات حفتر
تهدد تصرفات بنك طرابلس قدرة حفتر على الاستمرار بعملياته العسكرية، لكنها بالنهاية قد لا تكون ذات تأثير حقيقي إذا تدخل لاعب خارجي للوفاء بمتطلبات حفتر
   

تظل تفاصيل ميزانية قوات حفتر في الحرب الحالية غير معروفة على الرغم من هذا، وإن ذكرت مصادر خاصة برويترز إرسال حفتر أكثر من ألف جندي إلى الغرب، وهو عدد من المتوقع أن يتزايد مع تعثر الهجوم الحالي، ودون معرفة للكيفية التي يمول بها حفتر استمرار هذا المعارك في وقت قام فيه البنك المركزي في طرابلس بتخصيص ملياري دينار ليبي (14) للمجهود الحربي، وبموافقة من حكومة السراج بالطبع.

      undefined

  

لم تكن هذه هي الخطوة الوحيدة التي اتخذها البنك المركزي لمحاولة صد هجوم حفتر؛ فقد أعلن البنك مؤخرا عن استبعاد ثلاثة بنوك من الشرق من النظام المصرفي الإلكتروني الليبي، وهي خطوة أتت على خلفية عجز هذه البنوك عن الوفاء بالحد الأدنى من متطلبات الإيداع، عجز يسمح للبنك المركزي بمنع وصول هذه البنوك للعملة الصعبة، وهو ما يهدد بالتبعية قدرة البنك المركزي في الشرق على الحصول على العملة الصعبة إن استمرت طرابلس بحجبها عن البنوك التابعة له.

   

تهدد مثل هذه التصرفات من بنك طرابلس قدرة حفتر على الاستمرار في عملياته العسكرية ضد العاصمة، لكنها في النهاية قد لا تكون ذات تأثير حقيقي إذا تدخل لاعب خارجي للوفاء بمتطلبات حفتر العسكرية والمالية، كأن تنفذ السعودية وعدها لحفتر بمده بأطنان الدولارات اللازمة لحملته كما أُعلن (15) مع بداية القتال، الأمر الذي يهدد باستمرار الحرب في ليبيا حتى أمد غير معلوم، خاصة في ظل بقاء مراكز القوى المادية ممثلة في البنك المركزي ومؤسسة النفط على حالهم في أيدي حكومة طرابلس.

     

 
 "الصديق الكبير" محافظ البنك المركزي الليبي (الجزيرة)

  

في مقابلة أجراها حفتر أواخر العام المنصرم مع صحيفة المرصد الليبية، وعندما أتى الحديث على ذكر الشأن الاقتصادي الليبي، كان رد حفتر بما يتعلق بإعادة تعامل الجيش الوطني في الشرق مع مؤسسة النفط الوطنية في العاصمة هو تشكيل لجنة تقصي الحقائق هدفها كما قال هو: التحقيق في مصادر تمويل الجماعات الإرهابية التي هاجمت الموانئ النفطية لأكثر من مرة، وكذلك التحقيق في كيفية توزيع العائدات ومنح الاعتمادات المستندية، لكن وعندما أتى ذكر البنك المركزي في العاصمة أعلن حفتر بوضوح أن الهدف هو تنفيذ قرارات مجلس النواب -في طبرق- بما يتعلق بمحافظ البنك المركزي في طرابلس، وبكلمات أخرى فالغاية هي تغيير محافظ البنك المركزي الحالي بآخر ينال رضى البرلمان والجيش الوطني وقائده.

   

يدرك حفتر هذا أو لا يدركه، فإن محاولة تغيير محافظ البنك المركزي قد تكون أصعب بكثير مما يتخيل، ليس فقط لمليارات الدولارات التي لا يدري سوى الكبير على رأس البنك المركزي أرقام الدخول إلى حساباتها، بما يجعله واحدا من أقوى رجال العاصمة الآن، ولكن كذلك لأن مركزية ليبيا الشديدة في شؤون النفط وعائداته المحددة سلفا بالعملة الصعبة والتي تؤثر بشكل مباشر على أسعار النفط العالمي صعودا وهبوطا، تجعل من الصعب -إن لم يكن مستحيلا- عدم تدخل عنصر قوة كالولايات المتحدة لصالح الكبير في كل مرة، أو بمعنى آخر لصالح استقرار أسواق المال في ليبيا على حساب استقرار البلاد نفسها سياسيا واقتصاديا.

     undefined

  

يجعل هذا موقف العاصمة والقوات المناهضة لحفتر بالتبعية أقوى حتى هذه النقطة من موقف حفتر، وبما يزيد من احتمالات فوز السراج في هذه الجولة إذا لم تتدخل عناصر أخرى لتُغير دفة المعركة لصالح منافسه، وإن لم تُغير النتيجة في النهاية، وأيا من كان الفائز في الحرب، فإنه لا يُمكن إغفال الخسائر في الأرواح التي تحصدها الحرب الآن، ومن الخسارة الفادحة التي تنتظر الاقتصاد الليبي مستقبلا إذا ما استمرت معارك البنوك المستقلة في دورانها دون اعتبار لتأثير هذا على الاقتصاد وعلى الشعب الليبي فيما بعد نهاية الحرب.

المصدر : الجزيرة