شعار قسم ميدان

"عقدة إدلب".. كيف أمكن لمدينة صغيرة أن تفجر صراعا بين روسيا وتركيا؟

ميدان - "عقدة إدلب".. كيف أمكن لمدينة صغيرة أن تفجر صراعا بين روسيا وتركيا؟

تتجه الأوضاع في إدلب إلى نقطة فاصلة بنهاية شهر فبراير/شباط 2020 لا تقتصر عواقبها على مستقبل امتداد سيطرة النظام السوري في إدلب (آخر معقل للمعارضة السورية المسلحة بعد 9 سنوات من الحرب) والطرق الاستراتيجية المارة منها، وبالتالي مستقبل الحل في سوريا، ولكن تمتد إلى المساهمة في تشكيل مستقبل العلاقات التركية-الروسية، والعلاقات التركية مع الولايات المتحدة والناتو، وهي ملفات تنعكس على التموضع التركي في عدة قضايا إقليمية ودولية، مثل: ليبيا والقرم وملف باتريوت وإس 400 وغيرها.

  

تتناول الورقة الحالية مسار تطورات الأوضاع في إدلب والتي رفعت مستوى التوتر في العلاقات التركية-الروسية في ظل إصرار تركيا على انسحاب قوات النظام إلى خلف نقاط المراقبة التركية المتفق عليها في سوتشي، أو القيام بعملية عسكرية لطرد النظام بالقوة بالرغم من الدعم الروسي، وإزاء هذا الموقف قامت تركيا بعدة خطوات منها تعزيز وجودها على الأرض، وتكثيف المباحثات مع روسيا واستدعاء موقف إعلان إسطنبول الرباعي الذي يضم أيضًا ألمانيا وفرنسا، وترى الورقة أن تركيا تعتبر أن مصالحها في بقاء النظام بعيدًا عن إدلب تجعلها مستعدة للدخول بعملية عسكرية لكنها تفضِّل بكل الأحوال أن تحقق أكثر ما يمكن من خلال المباحثات، ومن الواضح أن التجربة علَّمت تركيا أن القوة على الأرض أساس لأي مكسب على طاولة المباحثات.

  

إلى ما قبل التطورات الأخيرة في إدلب، أثبتت تركيا وروسيا من خلال مساري أستانة وسوتشي وبدعم من دبلوماسية الزعيمين، قدرة على التوصل لتفاهمات ومنع تدهور الأمور إلى نقطة عدم العودة في سوريا منذ أن استطاعتا تجاوز أزمة إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، كان آخرها دعوتهما المشتركة للتهدئة في إدلب، في 8 يناير/كانون الثاني 2020، على هامش اجتماع متعلق بليبيا، ولكن يبدو أن المرحلة التي وصلت إليها الأمور حيث سقط قتلى من الجيش التركي في إدلب (16 قتيلًا خلال فبراير/شباط 2020) وحوصرت معظم نقاط المراقبة التركية في إدلب، قد رفعت مستوى التوتر بين تركيا وروسيا إلى درجة فشلت فيها عدة جلسات معلنة وغير معلنة للحوار بين الطرفين، في أنقرة وموسكو، في  التوصل إلى تفاهم إضافة لاتصالات الرئيسين. ويشير هذا الأمر إلى ضيق الهوامش التي كانت موجودة في مراحل سابقة.

    

  

وأمام هذا المشهد فقد ازدادت احتمالات التصعيد أيضًا مع إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في كلمة له، في 18 فبراير/شباط 2020، أمام كتلة حزبه في البرلمان أن بدء عملية عسكرية تركية لإيقاف العملية العسكرية التي يشنُّها النظام السوري ضد إدلب، أصبحت "مسألة وقت". وكان الرئيس التركي قد أعلن، في 5 فبراير/شباط، عن مهلة للنظام حتى نهاية فبراير/شباط 2020 للانسحاب خلف نقاط المراقبة التركية وإلا سوف تقوم تركيا باسترداد هذه الأراضي بالقوة.

   

كان القرار التركي مدفوعًا بعدة ضغوط، أولها: الخطر الأمني المترتب على فقدان إدلب والذي قد يجر بعده تهديدات على مناطق درع الفرات وعفرين وحتى على الداخل التركي، بالإضافة إلى غموض علاقة النظام مع قوات سوريا الديمقراطية، وكذلك الحال بضغط أكثر من مليون نازح أصبحوا على الحدود التركية من أصل 3.5 ملايين شخص موجودين في إدلب. ويُعتقد أن مزيدًا من الضغط يقع على الرئيس، أردوغان، عندما يدعو زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، حليف حزب العدالة والتنمية، لإعادة تقييم العلاقة مع روسيا، والعمل على إسقاط حكم الأسد: "لن يكون هناك سلام في تركيا حتى يتم إسقاط الأسد ويجب على تركيا أن تعد الخطط لدخول دمشق". وبالطبع، يتزايد هذا الضغط مع تزايد عدد القتلى في الجيش التركي.

   

  

اعتمدت حُجَّة روسيا والنظام على اتهام تركيا بعدم القيام بدورها تجاه تفكيك هيئة تحرير الشام أو جبهة النصرة والتي لم توافق على ما ورد في اتفاق خفض التصعيد، في مايو/أيار 2017. وقد شنَّت روسيا والنظام منذ ذلك الوقت عمليات قصف تجاه بعض المناطق في إدلب، لكن التطور الأخير الذي ظهرت فيه مساعي النظام بالسيطرة على إدلب بدأ منتصف 2019 بعد السيطرة على عدة بلدات في ريف حماة ثم بالسيطرة على منطقة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي والتي حوصرت فيها أول نقطة مراقبة تركية، في أغسطس/آب 2019.

  

وقد حقق النظام تقدمًا كبيرًا في الفترة بين 14 يناير/كانون الثاني و20 فبراير/شباط 2020، حيث سيطر على كامل الخط الدولي M5 (حلب-دمشق) الذي تقع على امتداده بلدتا معرة النعمان وسراقب، كما استولى على أجزاء من الخط الدولي M4 (حلب-اللاذقية) حيث دارت معارك شرسة في منطقة النيرب بين سراقب وأريحا شرقي إدلب. واستطاعت قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا استعادتها في 24 فبراير/شباط 2020. ومع ذلك، تقدم النظام في نفس الفترة في بلدات معرة حرمة وكفر سجنة وحنتوتين والشيخ مصطفى ومناطق أخرى جنوبي إدلب، وبذلك بلغ عدد نقاط المراقبة التركية التي تمت السيطرة على عليها من النظام 13 نقطة مراقبة من أصل 40 نقطة، وقد كانت النقاط في الأصل 12 نقطة وفقًا لاتفاق سوتشي ولكن تركيا قامت برفع عدد النقاط بعد تقدم النظام نحو إدلب.

  

ومن المحتمل أن روسيا قدَّرت أن الأولوية الأساسية لتركيا تكمن في مشكلة اللاجئين وليس في سيطرة النظام على إدلب خاصة أن كل الجهات المحيطة بصنَّاع القرار التركي تقريبًا كانت تردد أن العام 2020 هو عام شرق المتوسط والوجود التركي في ليبيا، ولهذا ربما قدَّرت أن أنقرة سترضخ للأمر الواقع الذي تقضم فيه قوات النظام إدلب تدريجيًّا، مع منح شريط ضيق لاستيعاب مخاوف تركيا من أزمة اللاجئين، ولكن الموقف التركي أظهر تشددًا كبيرًا وأوضح أن مسألة بقاء إدلب خارج سيطرة النظام مسألة استراتيجية لتركيا ولدورها المستقبلي في سوريا، ولهذا أصرت على موقفها إزاء تقدم النظام وفي مواجهة الموقف الروسي الداعم له، ولذلك حاولت تركيا التأكيد على أولوياتها في إدلب لروسيا من خلال  التعزيزات العسكرية التركية التي لا تزال تتدفق نحو إدلب ومن خلال الاتصالات الدبلوماسية مع موسكو؛ حيث قال أردوغان: "قضية إدلب مهمة لنا بقدر أهمية عفرين ومنطقة نبع السلام، وأكدتُ لبوتين إصرارنا في هذا الموضوع".

       undefined

   

الانعكاسات خارج إدلب

على هامش الخلاف التركي-الروسي في إدلب، كان اتهام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لروسيا في 16 فبراير/شباط 2020، بإدارة الحرب في ليبيا لافتًا حيث قال: "روسيا تدير في الوقت الراهن الحرب هناك على أعلى مستوى"، كما كرَّر أردوغان اتهامه لشركة الأمن الروسية الخاصة "فاغنر" بدعم حفتر، ومع أن تركيا وروسيا وجَّهتا دعوة مشتركة لوقف إطلاق نار في ليبيا لم يقبل حفتر أن يوقِّع عليه قبل مؤتمر برلين مما أثار شكوكًا تركية حول حقيقة الضغط الروسي على حفتر. ومع أن تركيا وروسيا اعتمدتا نهج الفصل بين القضايا في علاقاتهما إلا أن اختلاف المصالح المتزايد في وقت تشعر فيه تركيا بترابط هذه القضايا وتأثيرها على مستقبلها يؤثر على كفاءة نهج الفصل، ويمكن أن نستشهد هنا بما قاله أردوغان: "إذا تهربنا من خوض النضال في سوريا وليبيا والبحر المتوسط وعموم المنطقة، فإن الثمن سيكون باهظًا مستقبلًا".

  

ولا ننسى هنا أن الرئيس التركي بدأ برنامج شهر فبراير/شباط 2020 باجتماع المجلس الاستراتيجي رفيع المستوى في العاصمة الأوكرانية، كييف، حيث جدَّد أردوغان تأكيده أن بلاده لم ولن تعترف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية بطريقة غير شرعية. ويأتي في هذا السياق ما أعلنه السفير الأوكراني في أنقرة أنه تم خلال هذه الزيارة "توقيع اتفاقية يقدم بموجبها الجانب التركي مساعدة مالية بقيمة 200 مليون ليرة تركية (حوالي 50 مليون دولار أميركي) ستُستخدم لتلبية احتياجات الجيش الأوكراني، وخاصة شراء الأسلحة". مؤكدًا توقيع اتفاقية مشابهة وبنفس المبلغ سابقًا، لكن التوقيت هذه المرة من شأنه إثارة الاستياء الروسي. كما اعتبر هتاف أردوغان وسط استقبال حرس الشرف له في كييف: "المجد لأوكرانيا" مستفزًّا للروس خاصة أن الهتاف مرتبط بالمشاعر المعادية ضد روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.

  

وفي سياق هذا التوتر، حاولت موسكو تذكير أنقرة بأزمة 2015 عندما أوقفت روسيا استيراد الخضراوات من تركيا وخاصة الطماطم مما تسبب بضرر كبير للعاملين في هذا القطاع، وقد أوقفت روسيا، في 10 فبراير/شباط 2020، عددًا كبيرًا من الشاحنات التركية المحملة بالطماطم بحجة أن حصة استيراد الطماطم من تركيا والمقدرة بـ150 طنًّا قد اكتملت، وقد كان من المقرر رفع هذه الحصة 50 طنًّا لكن القرار الروسي لم يُعتمد بعد مما جعل 250 شاحنة تنتظر على المعابر الحدودية عرضة لخسارة  20 مليون دولار في حال تلف 5 آلاف طن من الطماطم والتي أفاد المسؤولون بأنه سيتم إتلافها بعد 3 أيام من تاريخ الإيقاف.

  

الاستعانة بالجبهة المقابلة
قام مايك بومبيو بتعزية عائلات الجنود الأتراك الذين قُتلوا في هجمات النظام السوري في إدلب، ودعا إلى وقف الاعتداءات المستمرة من نظام الأسد، واصفًا تركيا بالحليفة في حلف الناتو
قام مايك بومبيو بتعزية عائلات الجنود الأتراك الذين قُتلوا في هجمات النظام السوري في إدلب، ودعا إلى وقف الاعتداءات المستمرة من نظام الأسد، واصفًا تركيا بالحليفة في حلف الناتو
   

وبالعودة إلى السلوك التركي تجاه التطورات في إدلب، نجد أنه مع أن تركيا اعتمدت بشكل مباشر على خطوتين في الرد على تقدم النظام نحو إدلب، إحداهما: تعزيز وجودها العسكري وتقديم مزيد من الدعم لفصائل المعارضة السورية تجسد في إحداث خسائر فادحة لدى النظام، والثانية: تكثيف المباحثات مع روسيا للتوصل إلى تفاهم يعود النظام بموجبه إلى ما قبل نقاط المراقبة التركية. وبالموازاة مع الخطوتين السابقتين، قامت تركيا بمواصلة التنسيق مع الناتو وعدد من دوله، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا.

  

وفي هذا السياق، فإن واشنطن التي وجدت في الخلاف بين تركيا وروسيا فرصة لدق إسفين في المسار التصاعدي للعلاقات منذ 2016، قد تضامنت مع تركيا حيث قام وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بتعزية عائلات الجنود الأتراك الذين قُتلوا في هجمات النظام السوري في إدلب، ودعا إلى وقف الاعتداءات المستمرة من نظام الأسد، واصفًا تركيا بالحليفة في حلف الناتو، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أرسلت واشنطن المبعوث الأميركي للملف السوري، جيمس جيفري، إلى أنقرة "لتنسيق الرد على هجوم النظام السوري المزعزِع للاستقرار". كما فاجأ جيفري الجميع عند وصوله لأنقرة عندما تحدث باللغة التركية واصفًا قتلى الجيش التركي في هجمات النظام السوري بكلمة "شهدائنا".

   

وقد توقع بعض المتابعين أن تستغل واشنطن الفرصة لتقديم عرض جديد لمنظومة باتريوت الدفاعية وحثِّ تركيا على التخلي عن منظومة إس 400 التي تعد من النقاط الإشكالية في العلاقات التركية-الأميركية، وقد لوح وزير الدفاع التركي بإمكانية هذا الأمر حيث قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار: "إن الولايات المتحدة قد ترسل صواريخ باتريوت إلى بلاده بعد مقتل الجنود الأتراك، مستبعدًا أية مساندة برية من القوات الأميركية". ولكن خلفية الموقف الأميركي في سوريا ومستوى الثقة لا يصلان لمستوى كاف لإقناع أنقرة بهذا الخيار.

     

أكد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، أن بلاده وروسيا تجريان مناقشات بشأن استخدام المجال الجوي السوري في محافظة إدلب، مشيرًا إلى أنه يمكن التغلب على المشكلة إذا
أكد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، أن بلاده وروسيا تجريان مناقشات بشأن استخدام المجال الجوي السوري في محافظة إدلب، مشيرًا إلى أنه يمكن التغلب على المشكلة إذا "تنحَّت" موسكو جانبًا
    

ولذلك، استمرت أنقرة في المضي في إطار المباحثات الثنائية مع موسكو (كان آخرها لقاء وزيري الدفاع، في 22 فبراير/شباط 2020، واتصال بين الرئيس أردوغان والرئيس بوتين أكد فيه أردوغان أهمية إدلب بالنسبة لتركيا)، بالرغم من العروض الروسية التي ترفضها تركيا والتي تدور حول إبقاء شريط ضيق في إدلب لكي يتم استيعاب اللاجئين فيه وذلك إدراكًا لخشية تركيا من موجة لاجئين جديدة حيث إن عدد سكان إدلب حاليًّا يربو على 3.5 ملايين لاجئ.

    

كما عرضت موسكو نقل نقاط المراقبة التركية إلى هذا الشريط، مع إمكانية فتح الطريق الدولي بإشراف مشترك بين تركيا وروسيا والاستمرار في العمل المشترك ضد التنظيمات الإرهابية. ومع استمرار أنقرة في المباحثات استمرت أيضًا في إرسال التعزيزات العسكرية على الأرض، وقد كانت هناك قناعة تركية متزايدة من خلال تجاربها السابقة في سوريا وليبيا أنها لن تستطيع الحصول على نتائج على الطاولة ما لم يكن لها حضور عسكري على الأرض.

    

عملياتيًّا، تستطيع تركيا التفوق على قوات النظام السوري، ومع ذلك فإن تركيا كقوة متوسطة لا تستطيع أن تكون وحدها في مجابهة روسيا وإيران والنظام خاصة في ظل وجود قيود روسية على استخدام أنقرة للمجال الجوي الروسي، وقد أكد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، أن بلاده وروسيا تجريان مناقشات بشأن استخدام المجال الجوي السوري في محافظة إدلب، مشيرًا إلى أنه يمكن التغلب على المشكلة إذا "تنحَّت" موسكو جانبًا. وفي حال فشل هذه المناقشات، فإن احتمال محاولة تركيا للحصول على الدعم من الناتو ستزداد، مع أن قدوم دعم من الناتو لتركيا ضد روسيا أمر مشكوك فيه، وقد ذكر أحد المواقع باللغة التركية أن تركيا طلبت من الناتو تنفيذ حظر طيران وأخطرته أنها سوف تنفذ عملية عسكرية في إدلب. ولكن مجرد وجود شبح الناتو أمام روسيا التي تستعد لجني ثمار مرحلة ما بعد الحرب في سوريا قد يكون بطاقة قوة بيد تركيا.

       

  

ومع الشك التركي بالموقف الأميركي وبموقف حاسم من الناتو، والقناعة باستمرار دعم روسيا للنظام عملت تركيا على استدعاء مسار آخر وهو إطار "إعلان إسطنبول الرباعي" الذي يضم بالإضافة لتركيا وروسيا كلًّا من فرنسا وألمانيا، كما أعطى أردوغان أهمية للتنسيق مع بريطانيا أيضًا. ومن المعلوم أن إعلان إسطنبول الذي نجم عن القمة الرباعية في إسطنبول قد تضمن في أحد بنوده، في 2018، المحافظة على وقف إطلاق نار دائم في إدلب، فضلًا عن أن الدول الأوروبية ستكون أحد المتأثرين الأساسيين من أية موجة لجوء جديدة.

  

ولِمَا سبق، دعا أردوغان إلى "خطوات ملموسة" لمنع "كارثة إنسانية" في إدلب وذلك في اتصال هاتفي مع ميركل وماكرون، وقد أسفرت اتصالاته عن ترتيب قمة، في 5 مارس/آذار 2020. وعليه، فإن العملية العسكرية التركية لن تكون قبل هذا التاريخ، وعطفًا على أهمية اتصالات أردوغان مع نظرائه: الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والروسي، فلاديمير بوتين، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، قال أردوغان: إن تركيا حددت خارطة الطريق التي ستتبعها فيما يخص إدلب على ضوء هذه الاتصالات الهاتفية.

    

بعد هذه الخطوات التي قامت بها تركيا ميدانيًّا، بحشد القوات في 40 نقطة في إدلب وطرد قوات النظام من بلدة النيرب، وتتطلع لاستعادة مدينة سراقب الاستراتيجية التي تقع عند عقدة الطرق الدولية، ودبلوماسيًّا، من خلال التنسيق مع الناتو وعدد من العواصم الغربية، تم الإعلان، في 25 فبراير/شباط، أن وفدًا روسيًّا سيزور أنقرة لبحث قضية إدلب.

    

لا تزال تركيا تصر على عودة النظام خلف نقاط المراقبة التركية، وقد رفعت سقفها بالتعهد بالرد على أي هجوم أيًّا كان الطرف المهاجم
لا تزال تركيا تصر على عودة النظام خلف نقاط المراقبة التركية، وقد رفعت سقفها بالتعهد بالرد على أي هجوم أيًّا كان الطرف المهاجم
   

مع أن بوتين يريد التقليل من حضور تركيا في مستقبل سوريا قدر الإمكان إلا أن عملية سيطرة النظام على إدلب تحمل العديد من المخاطر في حال أية مواجهة تركية-روسية على الطرفين، ومنها تهديد التعاون بين تركيا وروسيا والذي وصل إلى ملفات كبيرة منها في مجال استيراد منظومة إس 400 ومشروع السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا وغيرها وصولًا إلى عقوبات متبادلة، وزيادة احتمالات التنسيق بين تركيا والغرب من جديد على حساب روسيا. أما تركيا، فهي شبه متأكدة أنها لن تلقى دعمًا غربيًّا ضد روسيا إلا في هامش ضيق تتلاقى معه المصالح الغربية، كما أنها تخشى أن تكون خارج اللعبة في مستقبل سوريا وخاصة من حدوث تعاون بين النظام ووحدات الحماية الكردية التي تعتبرها تهديدًا لأمنها القومي بالإضافة إلى موجة جديدة من اللاجئين. ولعل الأبعد من ذلك أن يتم زيادة التعاون بين روسيا والجبهة المناوئة لتركيا في المنطقة في ملفات مثل ليبيا وغيرها.

  

خاتمة

لا تزال تركيا تصر على عودة النظام خلف نقاط المراقبة التركية، وقد رفعت سقفها بالتعهد بالرد على أي هجوم أيًّا كان الطرف المهاجم، وأظهرت أنها مصممة على تحويل المنطقة الحدودية إلى "منطقة آمنة بأي ثمن". وقد أثبتت ذلك عمليًّا بنشرها أكثر من 10 آلاف جندي ومن خلال طرد النظام من بلدة النيرب. 

    

وبالرغم من التشدد الروسي الذي عبَّر عنه وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، بقوله: "لا عودة عن الوضع القائم في إدلب"، ومن عدم تحقق نتائج من جولات المباحثات فإن الطرفين عبَّرا عن استعدادهما للعمل على كل المستويات. ويقدم كل من اللقاء المباشر المحتمل بين بوتين وأردوغان، واللقاء الرباعي في 5 مارس/آذار 2020، بالإضافة إلى الوفد الروسي القادم إلى أنقرة فرصًا جديدة للتوصل لحل ما دون التوجه للخيار العسكري.

    

في حال مضي الأيام القادمة دون لقاءات واتصالات بين أردوغان وبوتين فإن هذا يعتبر مؤشرًا على مزيد من التوتر
في حال مضي الأيام القادمة دون لقاءات واتصالات بين أردوغان وبوتين فإن هذا يعتبر مؤشرًا على مزيد من التوتر
   

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن فرض روسيا لرؤيتها في إدلب سيعتبر هزيمة لتركيا ونقطة تحول في العلاقات التركية-الروسية، ولذلك فإن حلًّا يحفظ ماء الوجه قد يكون مطروحًا من قبيل انسحاب النظام إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية وقيام تركيا وروسيا بإدارة المناطق الواقعة في الوسط بشكل مشترك، وبالتأكيد يعني هذا إلغاء إمكانية عودة هيئة تحرير الشام إلى هذه المناطق.

    

في الختام، يمكن أن نلخص ما يجري بعبارة واحدة، وهي: أن تركيا تحاول أن تقول إن مصالحها الاستراتيجية في إدلب أهم من مصالح روسيا في إدلب، وأن القضية ليست قضية لاجئين فحسب، وهي تبرز نيتها بعدم الرغبة بالتضحية بما تحقق من تعاون بينها وبين روسيا وتضع الكرة في ملعب موسكو حتى لا تضحِّي بعلاقتها الاستراتيجية مع أنقرة في حال خرجت الأمور عن السيطرة ولكن من المؤكد أن تركيا ستكون في وضع صعب في حال تدهورت الأمور وهو سيناريو غير مرجح حتى الآن؛ إذ تحاول تركيا أن تُبقي المواجهة بينها وبين النظام.

    

وفي حال مضي الأيام القادمة دون لقاءات واتصالات بين أردوغان وبوتين فإن هذا يعتبر مؤشرًا على مزيد من التوتر. وعلى كل الأحوال، فإن إحدى أهم نتائج السجال الجاري حول إدلب يوضح من جهةٍ المدى الذي يمكن أن تتجه به تركيا نحو روسيا، وهو بالتأكيد يُفشل كل من راهن على تحول تركيا من المعسكر الغربي نحو روسيا حيث إن ما تبحث عنه تركيا -ولا تزال- هو الاستقلالية. ويشير من جهة أخرى إلى تصلب في المرونة السياسية التي مارسها الطرفان والتي كان من نتائجها فصل ملفات الخلاف عن ملفات التعاون بشكل براغماتي وهو ما يجعل تركية مدعوة، كما قال رئيس الحركة القومية التركي، دولت بهشلي، إلى إعادة تقييم علاقاتها مع روسيا.

——————————————————

هذا التقرير مأخوذ عن: مركز الجزيرة للدراسات.

المصدر : الجزيرة