شعار قسم ميدان

كورونا في مصر.. هل يمكن أن يشكل خطرا على نظام السيسي؟

ميدان - كورونا في مصر.. هل يمكن أن يشكل خطرا على نظام السيسي؟

بحلول نهاية الأسبوع الأول من (مارس/آذار)، كان العالم بأسره قد أيقن أنه يواجه خطرا حقيقيا مع بلوغ (1) عدد الإصابات بفيروس كورونا المستجد أكثر من 111 ألف حالة في أكثر من مئة دولة، في حين كان الوباء قد حصد أرواح أربعة آلاف شخص، ولكن في الإعلام المصري، كانت الصورة مختلفة وهزلية إلى أقصى حد، وهو هزل بلغ ذروته في الحلقة المثيرة للجدل للإعلامي المصري "جابر القرموطي" من برنامجه "الكلام على ايه" المُذاع عبر فضائية "الحياة" الخاصة المقربة من السلطة، والتي بث خلالها اتصالا هاتفيا ساخرا مع شخص جسّد "فيروس كورونا"، دعا خلاله المصريين إلى عدم الذعر من الأنباء المتداولة حول الوباء مؤكدا أن مصر "مختلفة عن أي مكان آخر في العالم"، وأن آثار المرض لا تتجاوز أعراض "نزلة برد" عادية يمكن أن تصيب أي شخص.

  

   

لم يكن هذا التهوين المتعمد من خطر الوباء، الذي وقع للمفارقة قبل يومين فقط من إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا جائحة عالمية، وفي وقت كانت مصر قد سجلت فيه رسميا 56 حالة إصابة بالمرض، لم يكن من بنات أفكار "القرموطي" أو من وحي خياله الشخصي على ما يبدو، ففي ذلك التوقيت، بدا أن تجاهل الخطر والتهوين منه هو سياسة ممنهجة (2) اتبعها الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، المملوك والموجه من الأجهزة السيادية في مصر، في مواجهة تقارير موثوقة من دول متعددة مثل تايوان وكندا وفرنسا وغيرها وثقت إصابة عدد من السياح بفيروس كورونا بعد زيارتهم إلى مصر.

  

لم تقتصر حالة الإنكار على وسائل الإعلام، ففي منتصف شهر فبراير/شباط، فاجأت وزيرة الصحة "هالة زايد" المصريين والعالم بتصريح صادم أكدت خلاله أن الفيروس لن يصيب المصريين، لأنه "يعيش في الصين وليس في مصر"، مؤكدة أن "الفيروس غير مُعْدٍ بشكل خطير"، وأنها لا تنوي منع السياح الصينيين من دخول البلاد لأن منظمة الصحة العالمية لا تُوصي بذلك، رغم أن الجميع، وفي مقدمتهم وزيرة الصحة نفسها، كانوا مضطرين لمواجهة الحقائق القاسية، ولو بشكل جزئي، في وقت لاحق، مع تسجيل أول إصابة لشخص مصري بالفيروس في 5 مارس/آذار، قبل أن تتوالى الإصابات خلال الأيام اللاحقة لتسجيل مصر قرابة 300 حالة إصابة رسمية بحلول 19 مارس/آذار، أي بعد أسبوعين من تسجيل أول إصابة، دون أي يصدر أي تعليق رسمي من مسؤول حكومي مرموق حول ما تنوي الدولة فعله لمواجهة تفشي المرض.

 

خلال هذه الفترة، استمرت حالة الإنكار في السيطرة على المشهد الإعلامي المصري رغم تزايد الإصابات، قبل أن تجد الحكومة المصرية نفسها مضطرة أخيرا للتدخل بعد أسبوعين من الصمت، لتصدر أخيرا قرارات بإغلاق جميع المطاعم والمقاهي والملاهي الليلية والأماكن العامة في أنحاء البلاد كافة من الساعة السابعة مساء وحتى الساعة السادسة صباحا، تبعتها مراسيم أخرى بتعليق عمل المؤسسات التعليمية ووقف إقامة الشعائر الدينية والصلوات في المساجد والكنائس، رغم أن هذه الإجراءات لم تمنع الحكومة من محاولة فرض روايتها الإعلامية حول الفيروس ومحاصرة أي تغطيات إعلامية مستقلة، بما في ذلك قيامها بإيقاف رخصة مراسلة صحيفة الغارديان في مصر بسبب تغطيتها (3) لنتائج دراسة أجراها مختصون في جامعة تورنتو قدّرت العدد الحقيقي لمصابي كورونا في مصر برقم يتراوح بين 6 آلاف و19 ألف مصاب، بخلاف قيام وزارة الداخلية المصرية بتوقيف ما لا يقل عن عشرة أشخاص بتهمة نشر أخبار كاذبة فيما يتعلق بعدد المصابين بالمرض في مصر على وسائل التواصل الاجتماعي.

   

   

بيد أن هذا الاحتكار المفتعل للرواية الإعلامية حول انتشار الوباء لم يكن هو الظاهرة الأكثر إثارة للانتباه بقدر ما كان الاختفاء المثير والغامض للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، المعروف بحبه للظهور الإعلامي، حيث انتظر السيسي حتى يوم 22 مارس/آذار، أي بعد مرور 17 يوما على تسجيل أول حالة إصابة رسمية، قبل أن يظهر ظهورا محدودا خلال الاحتفال بعيد الأم، داعيا المصريين إلى الالتزام بالإجراءات الاحترازية، ومعلنا تخصيص مبلغ مئة مليار جنيه مصري (نحو 6 مليارات دولار) لمواجهة الفيروس، دون أن ينسى بالطبع لمز المشككين في مدى صدق بيانات الدولة وجدية إجراءاتها في التعامل مع المرض.

 

كان ظهور السيسي فيما يبدو مقدمة لحزمة جديدة (4) أكثر جدية من إجراءات العزل الصحي أصدرتها الحكومة في 24 مارس/آذار، وشملت فرض حظر للتجوال على الطرق العامة كافة في فترات الليل وطوال يومي الجمعة والسبت، وإيقاف وسائل النقل العام والخاص خلال الفترة نفسها وغلق المحلات التجارية والحرفية كافة خلال فترات الليل، وتقليص عدد موظفي الدولة وإيقاف خدمات الشهر العقاري والمرور والسجل المدني، لكن الحكومة سرعان ما بدأت تلمس التأثير واسع النطاق لإجراءات الحظر على الاقتصاد والمعيشة في البلاد وتدرك مدى محدودية قدرتها على تعويض الأضرار الواسعة التي أصابت عمال اليومية الذين توقفت أعمالهم بشكل كامل وموظفي القطاع الخاص الذين جرى تسريح أعداد كبيرة منهم بسبب الحظر، ناهيك بضغوط رجال الأعمال الداعين لاستئناف النشاط الاقتصادي، وهو ما دفع الحكومة لتقليص ساعات الحظر تدريجيا وتخفيض شروطه عبر السماح باستئناف العمل في قطاع الإنشاءات الحيوي، ولاحقا السماح بفتح المحال التجارية ومراكز التسوق خلال ساعات النهار طوال أيام الأسبوع.

 

وفيما يبدو، فإن الحكومة المصرية قررت أن تداعيات الإغلاق الاقتصادي طويل الأمد ربما تكون أخطر (5) من انتشار المرض ذاته، بالتزامن مع إدراكها لمدى صعوبة تطبيق حظر كلي في بلد به أكثر من 20 مليون شخص من العمالة اليومية وغير المنتظمة بدون إجراءات دعم اجتماعي قوية يبدو أن الحكومة غير راغبة أو غير قادرة على القيام بها، غير أن هذه السياسة -قصيرة النظر- ربما تُثبت أنها خطيرة ومكلّفة في وقت قريب حال استمر تفشي الفيروس في مصر، وحال بلوغه معدلات انتشار قريبة من تلك الموجودة في الولايات المتحدة وأوروبا خاصة في ظل ضعف القطاع الصحي في البلاد ومحدودية قدرته على التعامل مع أعداد كبيرة من الإصابات في وقت واحد، وحتى على المستوى الاقتصادي، من غير المُرجَّح أن يكون الاستئناف الجزئي للنشاط كافيا لحماية مصر من الآثار الاقتصادية السلبية لتفشي المرض، التي سيتوقف عمقها على حجم التفشي ومدته، بخلاف ما يحمله الركود الاقتصادي المحتمل في البلاد من عواقب سياسية على استقرار النظام المصري على المدى المتوسط والبعيد.

  

ناقوس الخطر
وزيرة الصحة المصرية هالة زايد  (الصحافة المصرية)
وزيرة الصحة المصرية هالة زايد  (الصحافة المصرية)

   

حتى اللحظة الراهنة، يبدو أن وتيرة انتشار فيروس كورونا في مصر لا تزال تحت السيطرة إلى حدٍّ كبير، فرغم وجود الكثير من الشكوك حول مدى مصداقية الأرقام الرسمية بسبب القيود المشددة التي تفرضها السلطات المصرية على أعداد المفحوصين وعدم وجود أي مراكز خاصة مُصرَّح لها بإجراء اختبارات كورونا، فإن أرقام الوفيات والإصابات الخطيرة لا تزال تحت السيطرة بالنظر إلى أن هذه الأرقام بالذات قد يكون من الصعب إخفاؤها عن الأنظار لفترة طويلة.

   

ومع ذلك، هناك الكثير من المؤشرات التي تخبرنا أن القاهرة ربما تكون على وشك مواجهة أيام صعبة في مواجهة كورونا، فمع استمرار انتشار الوباء عالميا، وفي ظل تقارير تتحدث عن أن ذروة الإصابات في مصر ربما تكون خلال أواخر شهر مايو/أيار وشهر يونيو/حزيران المقبلين، وفي ظل معدلات الإصابة المرعبة في صفوف الطواقم الطبية والإغلاق المتتالي للمستشفيات بسبب الإصابات في صفوف الأطباء وطواقم التمريض، فليس من المستبعد أن تخرج الأمور عن السيطرة خلال الأسابيع المقبلة خاصة في ظل الهشاشة الشديدة (6) للنظام الصحي المصري والنقص المزمن في تمويل هذا القطاع.

 

على سبيل المثال، سجلت معدلات الإنفاق على الصحة في مصر تراجعا مستمرا من نسبة 6.7% في عام 2000 إلى 4.2% في عام 2016، وفي المالي 2018-2019، بلغ نصيب الفرد من الإنفاق على الرعاية الصحية 25 دولارا فقط لكل مواطن، وهو رقم هزيل جدا مقارنة بالمعدل العالمي الذي يُقدَّر بـ1000 دولار لكل مواطن، ناهيك بالنقص الحاد في أعداد أَسِرَّة "العناية المركزة" وأَسِرَّة المشافي بشكل عام حيث يتوفر في مصر بالكاد سرير واحد لكل 813 مواطنا، مقارنة بسرير لكل 363 مواطنا في إيطاليا التي انهارت منظومتها الصحية بشكل تام في مواجهة الفيروس.

      undefined

  

لا تقتصر الأخبار السيئة عند هذا الحد، فبالتزامن مع النقص الحاد في الإمكانات اللوجستية للقطاع الطبي، تواجه مصر عجزا لا يقل خطورة في أعداد الطواقم الطبية، فمن أصل 220 ألف طبيب حصلوا على تصريح مزاولة المهنة، غادر 120 ألفا منهم للعمل في الخارج (منهم 65 ألف طبيب يعملون في المملكة العربية السعودية وحدها)، فيما لا يعمل 40 ألف طبيب آخرين على قوة المنظومة الصحية الرسمية في مصر، ويُفضِّلون العمل في المستشفيات والعيادات الخاصة، ونتيجة لذلك، يبلغ عدد الأطباء العاملين في قطاعات وزارة الصحة 57 ألف طبيب فقط، وهو رقم يكفي بالكاد لتلبية احتياجات القطاع المتزايدة.

 

في ضوء ذلك، فإن مصر اليوم تمتلك معدلا متدنيا جدا لعدد الأطباء بالمقارنة بالمعدلات العالمية، حيث تمتلك البلاد 10 أطباء فقط لكل 10 آلاف مواطن، بالمقارنة مع 32 طبيبا لكل 10 آلاف مواطن عالميا، أي إن معدل عدد الأطباء في مصر يبلغ بالكاد ثلث المعدل العالمي، وبينما تتواصل موجات الهجرة بمعدلات متزايدة في صفوف الأطباء بسبب تدنّي الرواتب (تتراوح رواتب معظم الأطباء الحكوميين في مصر بين 200 و350 دولارا)، فإن مصر صارت تعاني عجزا كبيرا في أعداد الأطباء خاصة في التخصصات الحرجة مثل الطوارئ والعناية الفائقة والتخدير، ما يُنذر بخطر كبير حال زيادة عدد الحالات الخطيرة بشكل كبير.

 

بيد أن الصعوبات التي تواجهها مصر في زمان كورونا لا تقتصر على القصور المتوقّع في مستوى الرعاية الصحية فحسب، فمع قيام مصر بفرض إجراءات إغلاق جزئي لمواجهة تفشي الفيروس، فإن الحكومة صارت مطالبة باتخاذ حزمة إجراءات اقتصادية لتعويض الفئات الأكثر تضررا وتنشيط الاستهلاك ومنع الاقتصاد من الدخول في حالة ركود، وقد شملت إجراءات التحفيز الاقتصادي هذه خفض معدلات الفائدة بنسبة 3% وإعفاء الأجانب من ضرائب الأرباح الرأسمالية وإتاحة مخصصات مالية لتمويل القطاع الخاص الصناعي، وصرف معونة للعمالة غير المنتظمة.

          

لا يبدو القطاع الخاص في مصر مؤهلا للتعامل مع أزمة كورونا بغياب الدعم الحكومي فقد لجأت بعض الشركات لتسريح جزء كبير من القوى العاملة أو تخفيض رواتب الموظفين
لا يبدو القطاع الخاص في مصر مؤهلا للتعامل مع أزمة كورونا بغياب الدعم الحكومي فقد لجأت بعض الشركات لتسريح جزء كبير من القوى العاملة أو تخفيض رواتب الموظفين
   

لكن هذه المبادرات والإجراءات من غير المُرجَّح أن تكون كافية لمعالجة الضعف الاقتصادي والاجتماعي الذي يجعل مصر هشة بشكل متزايد في مواجهة المرض، ووفقا لمقال الباحث "ماجد مندور" المعنون "هشاشة الإجراءات المصرية لمكافحة الوباء" والمنشور في موقع معهد "كارنيغي" للسلام الدولي (7)، فإن هذا الضعف المتزايد للقطاعات الحيوية في مصر مثل الصحة والضمان الاجتماعي يمكن عزوه إلى "إعطاء الحكومة أولوية كبيرة منذ عام 2015 للإنفاق العسكري وقيامها بتبديد الأموال على المشروعات الضخمة"، وحتى خطة الإصلاح الاقتصادي التي تبنّتها مصر بالشراكة مع صندوق النقد الدولي منذ عام 2016 لم تُسهم إلا في زيادة الأمور سوءا بالنسبة للمصريين (رغم تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي)، حيث تسبّب خفض الإنفاق الحكومي على الدعم والخدمات إلى زيادة معدلات الفقر إلى 30% وفق الأرقام الرسمية و50% بحسب البيانات غير الرسمية، وهو ما أدّى إلى تراجع الطلب المحلي وانخفاض الاستهلاك، وتسبّب بالتبعية في الحد من آفاق نمو القطاع الخاص وجعله أكثر عرضة للصدمات.

 

ونتيجة لذلك، فإن القطاع الخاص في مصر اليوم (يوظّف نحو 23 مليون شخص) لا يبدو مؤهلا للتعامل مع الأزمة في غياب الدعم الحكومي، ولذا، فإن الكثير من الشركات المتوسطة والصغيرة اضطرت اليوم إلى إغلاق أبوابها، فيما لجأت بعض الشركات إلى تسريح جزء كبير من القوى العاملة أو تخفيض رواتب الموظفين بنسب مؤثرة، أضف إلى ذلك حقيقة أن معظم العاملين في القطاع الخاص لا يتمتعون بأي مستوى من الرعاية الاجتماعية مع كونهم مُدرجين على قوة القطاع الخاص غير النظامي، بما يعني أنهم غير مشتركين في منظومة التأمين الاجتماعي التي يبلغ عدد المشاركين فيها 48% فقط من العاملين في الوظائف الدائمة في القطاعين العام والخاص.

 

وفي محاولة لحل هذه المشكلة، أقرّ مجلس النواب قانونا جديدا في يوليو/تموز 2019 ينص على تسديد تعويضات بطالة تبلغ نسبتها 75 في المئة من الراتب الذي كان يتقاضاه الشخص أثناء عمله، وذلك في الأشهر الثلاثة الأولى لتركه العمل على أن تُقَلَّل هذه المستحقات بشكل تدريجي لاحقا، ولكن هذا القانون لا ينطبق على أكثرية القوة العاملة المصرية، نظرا لكونهم يعملون في القطاع غير النظامي، ولا يُسدّدون اشتراكات الضمان الاجتماعي، بما يعني أن قدرة الحكومة على تقديم الدعم لأولئك الذين سيخسرون وظائفهم بفعل الأزمة سوف تكون محدودة للغاية.

  

عمال اليومية (الجزيرة)
عمال اليومية (الجزيرة)

     

وتبقى المشكلة الأكبر (8) في هذا الصدد هي وضع عمال اليومية، أو مَن يُعرفون بالعمالة غير المنتظمة (أكثر من 20 مليون شخص يُشكِّلون 30% من القوة العاملة في مصر)، ومعظم هؤلاء فقدوا مصادر دخلهم بشكل تام بسبب سياسات الإغلاق الجزئي والمخاوف من انتشار الفيروس، وقد قررت الحكومة منح كل عامل مبلغ 500 جنيه مصري (نحو 32 دولارا) كدفعة واحدة، في محاولة لمساعدتهم على تجاوز آثار الإغلاق، ولكن هذا المبلغ يُعَدُّ ضئيلا جدا في مواجهة وباء من الممكن أن يستمر لفترة طويلة، وهو ما يترك الغالبية العظمى من المجتمع المصري في وضع هشّ جدا في مواجهة المرض مع فقر متزايد وارتفاع مطّرد في معدلات البطالة وهشاشة في النظام الصحي، وكلها أمور تُظهِر مدى عجز الحكومة عن حماية المصريين في خضم أزمة طاحنة.

   

تحت الضغط

على مستوى الاقتصاد الكلي لا تبدو الصورة على القدر ذاته من الضبابية والقتامة، فوفق العديد من المؤشرات كان أداء الاقتصاد الكلي (9) في مصر جيدا خلال عام 2019، وكانت مصر بالنسبة إلى العديد من المستثمرين بمنزلة نجم صاعد في سماء الاقتصادات الناشئة بعدما بلغ معدل النمو الاقتصادي خلال النصف الأول من العام المالي 2019-2020 نحو 5.6% ارتفاعا من نسبة 5.3 في العام السابق، وأقل من 2% خلال عامي 2012 و2013، وبعدما حققت عائدات السياحة انتعاشا ملحوظا خلال العامين الأخيرين، لكن الاقتصاد المصري بدأ يُظهِر علامات على التباطؤ خلال الربع الأول من عام 2020، ليتماشى بذلك مع المشاعر الاقتصادية للمصريين الذين لم تتأثر أحوالهم بنمو الاقتصاد الكلي على كل حال.

   

وكدليل على هذا التباطؤ، سجّل مؤشر مديري المشتريات في مصر، الذي يُقدِّم نظرة إلى أداء القطاع الخاص غير النفطي، سجّل 47.1 نقطة خلال شهر فبراير/شباط (يُشير أي رقم أقل من 50 إلى تراجع وانكماش القطاع)، ويُعَدُّ هذا هو الشهر السادس على التوالي الذي يعاني فيه القطاع من الانكماش بسبب انخفاض الطلب وتراجع قدرات المستهلكين ومعنوياتهم، خاصة المستهلكين في المدن الكبرى، ومع تفشي فيروس كورونا من المُرجَّح أن تزداد وتيرة هذا التباطؤ، في حينٍ ستجد فيه الدولة نفسها مضطرة لتخفيف الأعباء الضريبية على الشركات لمساعدتها على مواصلة العمل، وتقديم الطاقة بأسعار مخفضة للحفاظ على النشاط الصناعي.

   

  

لكن إجراءات التحفيز الحكومي من غير المُرجَّح أن تكون كافية لتخفيف الضغوط التي ولّدها تفشي فيروس كورونا على مختلف قطاعات الاقتصاد، خاصة في قطاعَيْ السياحة والصناعة اللذين يُسهمان بنسبة 16% و12% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر على التوالي، في ظل توقف حركة الطيران ونشاط السياحة وانخفاض الطلب العالمي على المنتجات المُصنَّعة، ومن المُرجَّح أن يتسبّب ذلك في نهاية المطاف في الضغط على موارد مصر من العملة الأجنبية مع فقدانها لعائدات السياحة وحصة كبيرة من صادراتها.

 

بخلاف ذلك، ومع تباطؤ النشاط الصناعي والتجاري حول العالم، وتسريح الملايين من العمال، وتقليص الرواتب والمدفوعات، من المنطقي أن نتوقّع أن حصيلة العملات الأجنبية التي تجلبها قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج سوف تتأثر أيضا، خاصة في ظل الأزمة التي تعانيها دول الخليج المستضيفة للعمالة المصرية بسبب انخفاض أسعار النفط، وبالنظر إلى كون هذين المصدرين يُمثّلان معا 14% من الناتج المحلي الإجمالي يمكننا بسهولة أن نتوقّع حجم الأزمة التي سيواجهها الاقتصاد المصري خلال الأشهر المقبلة.

 

في الحقيقة، يبدو أن المؤشرات المبكرة لهذه الأزمة بدأت في الظهور بالفعل، فرغم تأكيد مصر على لسان محافظ البنك المركزي امتلاكها لاحتياطي نقدي يكفي لحمايتها من الصدمات الاقتصادية لمدة عام أو عامين، فإن الوتيرة السريعة التي تآكل بها الاحتياطي النقدي خلال شهر مارس/آذار بسبب تداعيات فيروس كورونا، وانخفاضه بأكثر من 5 مليارات دولار من 45.5 مليار دولار إلى 40.1 مليار دولار، يخبرنا أن النظرة المتفائلة التي تُصدِّرها الحكومة ربما لا تكون واقعية تماما.

    

     

في هذا السياق، تتوقّع (10) دراسات اقتصادية مستقلة أن الاقتصاد المصري يمكن أن يخسر بين 2.3 إلى 2.6 مليار دولار أميركي في كل شهر تستمر فيه الأزمة وسياسات الإغلاق، بما يعادل انخفاضا بنسبة 0.7%-0.8% من الناتج المحلي الإجمالي شهريا، ووفق هذه الوتيرة المتوقّعة، فإن الاحتياطي النقدي للبلاد ربما يبلغ مستويات حرجة ما بين 6 أشهر إلى عام في أفضل الأحوال، في حين يمكن أن تبلغ الخسائر التراكمية للاقتصاد من 2.1% إلى 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام، بما يعني ابتلاع النمو المتوقّع للاقتصاد بشكل كامل في التقديرات المتشائمة، وتقليصه إلى النصف (نحو 2%) وفق التقديرات المتفائلة. 

   

ومع ذلك، لا تُعَدُّ هذه أرقاما سيئة للغاية في عام يتوقّع فيه الجميع أن تدخل فيه اقتصادات الدول الكبرى في مرحلة من الانكماش، في حين تتوقّع المؤسسات الدولية أن يحافظ الاقتصاد المصري على النمو وإن كان بمعدلات أبطأ من المتوقّع، وفيما يبدو، فإن المؤشرات العامة للاقتصاد في مصر سوف تحافظ على أداء جيد مقارنة بسائر الأسواق الناشئة خلال الأزمة، لكن اعتماد البلاد على التحفيز المدفوع بالديون والمصادر الهشّة للدولار مثل القروض والمنح وبيع الديون والأموال الساخنة سوف تؤدي إلى تفاقم الضغط الاقتصادي على مصر، وتعقّد إجراءات تعافي الاقتصاد على المدى الطويل.

 

ومن المُرجَّح أن يكون سعر صرف الجنيه المصري هو الضحية الأبرز لهذه السياسات، فرغم أن مصر قامت في وقت سابق من عام 2017 بتحرير سعر صرف الجنيه المصري، فإن كثيرين يعتقدون أن الحكومة لا تزال تتدخّل بشكل جزئي لضبط سعر الصرف، ولكن مع تلقي المصادر الرئيسية للدولار في مصر لضربات مبكرة وحاسمة، فسوف يزداد الضغط على البنك المركزي للحفاظ على قيمة العملة، وسوف يكون عليه إما إنفاق المزيد من الدولارات الثمينة لمنع هبوط الجنيه، وإما ترك العملة للهبوط مجددا والسماح بعودة السوق الموازية، رغم أن الهبوط المتوقّع للجنيه لن يكون بالوتيرة نفسها التي حدثت قبل عام 2017.

   undefined

  

ومن أجل مواجهة هذا التناقص الحاد في العملات الأجنبية من المُرجَّح أن تلجأ مصر إلى الاقتراض الدولي، وقد أكّدت القاهرة بالفعل أنها تتفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد لمواجهة تداعيات كورونا بموجب آلية التمويل السريع للصندوق بقيمة تتراوح بين 3 إلى 4 مليارات دولار، فيما أكّدت وزيرة التعاون الدولي رانيا المشاط أنها تتفاوض مع 100 مؤسسة دولية للحصول على قروض، لكن التنافس الكبير من الاقتصادات المتعثرة على القروض الدولية من المُرجَّح أن يجعل مهمة مصر في الحصول على مزيد من الأموال أكثر صعوبة وبطئا، وأخيرا وليس آخرا، من المُرجَّح أن تعاني مصر (11) لإقناع المستثمرين بالاستثمار في السندات المصرية في ظل ضبابية وضع الاقتصاد العالمي، وسوف يكون عليها أن تُقدِّم أسعار فائدة سخية جدا لإقناع المستثمرين لشراء ديونها، خاصة في ظل التقارير التي تُشير إلى تراجع الحيازات الأجنبية لسندات الخزانة المصرية من 28 مليار دولار إلى 13.5 مليار دولار فقط.

  

ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، يبدو أن مصر تكافح للوصول إلى إستراتيجية مالية متماسكة للتعامل مع التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا، في وقت يبدو فيه أن الحكومة تتخذ إجراءات لها آثار متناقضة، ففي حين أنها تحاول حماية الجنيه وإبطاء جهود الجمهور لشراء الدولار، فإنها قامت في الوقت نفسه بتقليص أسعار الفائدة على الأموال المودعة بالجنيه المصري ما يجعله أقل جاذبية للمودعين، وفي الوقت الذي تسعى فيه إلى تنشيط الاستهلاك من خلال تقليص أسعار الفائدة بهدف تسهيل عملية الاقتراض للأفراد والشركات وضخّ المزيد من السيولة في الاقتصاد، فإنها تضع قيودا على كمية الأموال التي يمكن سحبها بشكل يومي ما يؤدي إلى انكماش كمية الأموال المتداولة في السوق وتراجع الاستهلاك والنشاط الاقتصادي.

    

    

في وجه العاصفة

تُخبرنا المعطيات السابقة طرفا من الصعوبات التي ستواجهها الحكومة للتخفيف من أثر جائحة كورونا، خاصة مع كون مؤسسات البلاد السياسية قد صُمِّمت بالأساس لحماية مصالح النخبة العسكرية الضيقة، ما يجعلها غير قادرة على الاستجابة بشكل فعال لأزمة كبرى على مستوى الصحة العامة، ومع كون نموذجها الاقتصادي يقوم بالأساس على تحسين الأرقام والمؤشرات الكلية للاقتصاد من خلال الإنفاق الممول بالديون في الوقت الذي يجري فيه تدريجيا نزع الغطاء الاجتماعي عن الطبقات الفقيرة وإلقاء الملايين من الناس في براثن الفقر أو الهشاشة.

  

لكن التداعيات متوسطة وطويلة الأمد لتفشي كورونا في مصر لن تقتصر على المجالين الصحي والاقتصادي، فمع استمرار تفشي الفيروس لفترة أطول، فإن تأثيراته سوف تبدأ في التماس مع المجال السياسي الضيق ومحكم الإغلاق في مصر، وخلال المراحل الأولى من التفشي، من المُرجَّح أن يسعى النظام للاستفادة من تفشي المرض لتركيز السلطة وتعزيز القبضة الأمنية بشكل أكبر، وهو ما بدأت بوادره بالفعل مع موافقة لجنة الشؤون التشريعية والدستورية في مجلس النواب على إجراء تعديلات في قانون الطوارئ لمنح الرئيس صلاحيات جديدة في مجالي الصحة العامة والاقتصاد تشمل سلطة تعليق الدراسة وإغلاق الأجهزة الحكومية ووقف تسديد فواتير المرافق والخدمات وتقديم الدعم للقطاعات والأفراد المأزومين وفرض ضرائب خاصة لمواجهة الأزمة.

  

يُفضِّل السيسي أن تتحمل الحكومة بعض الصدمات ما قد يمنحه بعض المرونة السياسية لتغيير الوجوه وتعديل السياسات حال أثبتت أنها غير شعبية بشكل متزايد
يُفضِّل السيسي أن تتحمل الحكومة بعض الصدمات ما قد يمنحه بعض المرونة السياسية لتغيير الوجوه وتعديل السياسات حال أثبتت أنها غير شعبية بشكل متزايد
 

من الناحية الظاهرية، تُتيح (12) هذه الصلاحيات الجديدة للسيسي أن ينسب الفضل لنفسه في إجراءات الإغاثة الاقتصادية التي ستُتَّخذ خلال الأشهر المقبلة والتي يمكن أن تزيد من الدعم الشعبي له (نجح الكثير من القادة حول العالم في استغلال أزمة كورونا لتعزيز الدعم لشخوصهم وسياساتهم)، ولكن إذا تبيّن في نهاية المطاف أن هذه الإجراءات غير كافية أو حال تجاوز عدد الوفيات والإصابات قدرة الدولة على الاحتواء، فإن عددا كبيرا من المصريين سوف يُصابون بالغضب والإحباط بسبب عجز النظام عن مساعدتهم، وسوف يؤدي ذلك إلى تقويض الدعم الشعبي للسيسي على المدى الطويل.

   

ومع إدراكه لهذه الحقيقة ربما، يسعى السيسي -على غير عادته- إلى وضع مسافة بينه وبين إجراءات الإغلاق المثيرة للجدل مُفضِّلا منح صلاحيات مُوسَّعة للحكومة لقيادة الجهود الميدانية لاحتواء الوباء وتحمُّل المسؤولية عن سياسات الإغلاق الاقتصادي، حيث لا يرغب الرئيس فيما يبدو في تحمُّل التبعات الكاملة لانتشار الوباء والأزمات الاقتصادية الناجمة عنه، ويُفضِّل في هذه المرة أن تتحمل الحكومة بعض الصدمات ما قد يمنحه بعض المرونة السياسية لتغيير الوجوه وتعديل السياسات حال أثبتت أنها غير شعبية بشكل متزايد.

   

بالمثل، وباستثناء اللقطات الإعلامية المثيرة التي يحرص السيسي والجيش على تسجيلها في هذه المناسبات والتي شملت استعراض القدرات الطبية للجيش والمشافي العسكرية، يبدو واضحا أن الجيش لا يلعب دورا كبيرا أو محوريا حتى الآن في جهود احتواء الأزمة، وربما يرجع ذلك في المقام الأول إلى أن الفيروس ضرب عددا من قيادات الجيش في وقت مبكر، وتسبّب في وفاة لواءين مرموقين على الأقل وإدخال عدد كبير (13) من القيادات إلى الحجر الصحي بمَن فيهم رئيس جهاز المخابرات العامة وذراع السيسي اليمنى، عباس كامل، وهو ما أثار المخاوف حول تفشٍّ واسع النطاق للوباء في صفوف قادة الجيش، خاصة إذا وُضِع الجنود على الخطوط الأمامية لمواجهة المرض، والمخاطرة بانتقال المرض إليهم ومن ثم نقله إلى قياداتهم.

    

   

غير أن التأثير بعيد المدى لهذه الاتجاهات الجديدة لا يزال غير واضح، ومن الصعب أن نجزم إذا ما كانت الأزمة سوف تقنع السيسي بأهمية وضع مسافة بين المؤسسة العسكرية وبين الترتيبات الدقيقة للحوكمة وإدارة البلاد بما يحميها من عواقب الأزمات المفاجئة، وذلك عبر تشكيل حزب سياسي جديد أو ترؤس حزب سياسي قائم يمكن أن تنبثق عنه حكومة قوية خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها هذا العام، أم أن السيسي سوف يُفضِّل في النهاية العودة إلى النهج نفسه الذين يتعامل مع الجيش فعليا بوصفه الحزب الحاكم، خاصة إذا أجبره تفشي المرض على وضع العسكريين على خطوط المواجهة ضد الوباء.

  

على المستوى الشعبي، من الصعب تصوُّر تحوُّل الاستياء من التفشي الواسع للوباء أو قصور الإجراءات الحكومية المتخذة لمواجهته أو حتى تداعياته الاقتصادية إلى موجة احتجاج جماهيري خلال المدى القريب، فمن ناحية فإن مخاوف المرض سوف تجعل الجماهير الغاضبة أقل رغبة في تعريض نفسها للخطر عبر التجمهر في الشوارع، ومن ناحية أخرى فإن انتشار المرض سوف يعطي ذريعة إضافية للأجهزة الأمنية لقمع أي احتجاجات محتملة، لكن تراكم الاستياء من شأنه أن يلتهم رصيد السيسي الشعبي المتآكل بالفعل ويمهّد الطريق لتحركات شعبية في أقرب فرصة، خاصة إذا ظل قطاع السياحة مغلقا حتى العام المقبل، وإذا قرّر النظام فرض إجراءات تقشفية لمعالجة أزمة الموازنة، أو في السيناريو الأسوأ، حال أعاقت الأزمة قدرة الحكومة على توفير السلع الأساسية لمواطنيها سواء بسبب نقص العملات الأجنبية أو بسبب صعوبة الاستيراد من الخارج.

  

وسوف تعوق أي مظاهر للاستياء الشعبي قدرة النظام على تصوير نفسه على أنه معقل للاستقرار السياسي والاقتصادي، ومن المُرجَّح أن تزداد الضغوط على النظام بشكل خاص حال صعود إدارة ديمقراطية إلى البيت الأبيض نهاية العام الحالي 2020، مع المطالبات المحتملة بإجراء إصلاحات سياسية -وإن كانت تجميلية-، وهي ضغوط من المُرجَّح أن تتزايد في كل مرة تُثبت فيها الدولة عجزها عن أداء إحدى وظائفها الأساسية، وهي حماية شعبها في أوقات الأزمات.

المصدر : الجزيرة