كيف تدخل البيت الأبيض في إسقاط الطائرتين الإثيوبية والإندونيسية؟

يمكن لـ ”مارك زوكربيرغ“ أن ينام مُرتاحًا قرير العين لأن تستّره على اختراق خصوصيّة المُستخدمين التي حصلت في شبكته الاجتماعية، والتي أدّت لتسريب بيانات ملايين المُستخدمين، لم تودي بحياة عشرات الأشخاص مثلما هو الحال مع فضيحة هيئة الطيران الفيدرالية الأمريكية (FAA) وشركة ”بوينغ“ (Boeing) اللاتي تسبّبت في مقتل أكثر من 300 شخص تقريبًا لأنها تجاهلت بعض اختبارات السلامة.
في التاسع والعشرين من (أكتوبر/تشرين الأول) 2018 تعرّضت الرحلة ذات الرقم ”جي تي 610“ (JT610) التابعة لشركة ”لايون إير“ (LionAir) الأندونيسية لحادثة أدت إلى غرقها في البحر بعد 13 دقيقة فقط من إقلاعها، وهذه كارثة راح ضحيّتها 189 شخص. الطيّار، وبعد الإقلاع مُباشرةً، طلب من مركز التحكّم في مطار ”جاكرتا“ (Jakrta) إذن للعودة من جديد بسبب بعض المشاكل التقنية على حد قوله، إلا أنه لم يتمكّن من السيطرة على الطائرة التي ارتطمت بالبحر(1).
|
وتجدر الإشارة هُنا إلى أن الطائرة المُستخدمة في تلك الرحلة كانت من طراز ”737 ماكس 8“ (737 Max 8)، من إنتاج شركة ”بوينغ“ الأمريكية، وتلك طائرة عانت من مشاكل تقنيّة قبل وصولها إلى مطار ”جاكرتا“، إلا أن فريق من المُهندسين تمكّن من استعادة النظام من جديد وإعادة كل شيء لوضعه الطبيعي، لتُصبح بذلك جاهزة لنقل الرُكّاب في رحلة لم تكتمل للأسف(2).
وبينما انشغل المحقّقون في تحليل البيانات المُخزّنة في الصندوق الأسود للطائرة المنكوبة، وبعد خمسة أشهر تقريبًا، تعرّضت الخطوط الجوية الأثيوبية إلى كارثة بعدما سقطت الرحلة ذات الرقم 302 بعد دقائق من إقلاعها من مطار العاصمة ”آديس أبابا“، وهي حادثة راح ضحيّتها 157 شخص، لكن المُفارقة هُنا بإن الطائرة المُستخدمة كانت من إنتاج ”بوينغ“، وهي من طراز ”737 ماكس 8“ أيضًا، لتبدأ التحقيقات بشكل مُكثّف بعدما تكرّرت الحادثة بنفس الظروف تقريبًا، فالطائرتان سقطتا بعد دقائق من الإقلاع دون وجود أية عوامل غير طبيعية قد تُفسّر السبب(3).
تتنافس شركة ”بوينغ“ الأمريكية مع شركة ”إيرباص“ (Airbus) الأوروبية التي أطلقت طائرة ”إيه 320 نيو“ (A320neo) الثورية، والتي سارعت جميع شركات الطيران للحصول عليها نظرًا لتوفيرها الكبير في استهلاك الوقود، وفي إمكانية استيعابها لـ 200 راكب تقريبًا. لم تقف ”بوينغ“ مكتوفة الأيدي وكشفت عن عائلة ”ماكس“ التي هي عبارة عن تطوير لطائرات ”737“ المعروفة منذ سبعينات القرن الماضي(4).
الأجيال الأولى من ”737 ماكس“ كانت تستهلك كثيرًا من الوقود، فضلًا عن عدد المُسافرين القليل الذي يُمكنها نقله، الأمر الذي دفع مُهندسي الشركة لتوفير المزيد من المساحة عبر استخدام حمّامات أصغر من المُعتاد، لتُصبح قادرة على استيعاب أكثر من 200 راكب بسهولة. وإضافة لما سبق، طوّر المُهندسون المُحرّكات واستخدموا شفرات مُركّبة تتميّز بوزنها الخفيف مع رفع المُحرّك وتقريبه من الجناح، الأمر الذي يُمكن اعتباره أحد أهم العوامل في الكوارث السابقة.
تغيير تموضع المُحرّك غيّر قليلًا من انسيابيّة الهواء، وهو أمر هام جدًا في عالم الطيران، والسيّارات على حد سواء، لأن مقاومة الهواء لها تأثير على الجسم، وفي حالة الطائرات، يُمكن أن تؤدّي تلك المقاومة إلى تغيّر في مَيلان الطائرة، وهو ما حدث بالفعل مع ”737 ماكس 8“، ففي بعض الحالات، لوحظت مُقدّمة الطائرة وهي ترتفع للأعلى بدرجات كبيرة، الأمر الذي دفع لتطوير نظام خاص يحمل اسم ”نظام تعزيز المناورة“ (Maneuvering Characteristics Augmentation System)، واختصارًا (MCAS)، الذي يعتمد على مُستشعرات موجودة على مُقدّمة الطائرة مهمّتها الكشف عن وجود أي تغيّر سريع ومُفاجئ في درجة مَيلان الطائرة لإعادتها للوضع الطبيعي عبر تحريك الأجنحة الموجودة آخر الطائرة(5).
ولزيادة الطين بِلّه، تفاخرت شركة ”بوينغ“ بكون الطائرة الجديدة مُعتمدة على نفس نظام طائراتها الأُخرى. وهذا يعني أن الطيّارين ليسوا مُطالبين بالخضوع لدورات تدريبية على الطائرة الجديدة، خصوصًا أن نظام المناورة الجديد يعمل بشكل آلي، ومن المُفترض أنه لن يؤثّر على سير الرحلات أبدًا(6).
بعد العثور على الصندوق الأسود لطائرة خطوط ”لايون إير“ المنكوبة، تبيّن أن الطيّار حاول أكثر من مرّة إعادة الطائرة لوضعها الطبيعي بعدما انخفضت مُقدّمتها بشكل آلي، وهذا بسبب تنبيهات خاطئة قام المُستشعر الموجود على مُقدّمة الطائرة بإرسالها إلى نظام تعزيز المناورة الذي قام بدوره بتحريك الجناح الخلفي لتنخفض المُقدّمة ظنًّا منه أن مُقدّمة الطائرة ارتفعت بشكل كبير. الطيّار حاول رفع المُقدّمة لإعادة الطائرة، إلا أن نظام تعزيز المناورة استمرّ في التدخّل دون وجود أي إمكانية لتعطيله، ودون معرفة الطيّار ذاته بوجود هذا النظام لأن الشركة لم تتحدّث عنه أبدًا(7).
حاولت ”بوينغ“ اعتبار أن ما حدث في إندونيسيا كان مُجرّد خطأ لن يتكرّر، وتجاهلت الكثير من الأخطاء التي قامت بها أثناء اختبار الطائرة الجديدة مع هيئة الطيران الفيدرالية، التي تساهلت هي الأُخرى وتخلّت عن الكثير من شروطها الصارمة للحد من أية أخطاء قد تودي بحياة المئات من الأشخاص، وهذه تفاصيل شاركها بعض العاملين السابقين، والحاليين، في الهيئة، الذين أكّدوا وجود أوامر عُليا ضغطت على أصحاب القرار ودفعتهم للقفز عن بعض المعايير الهامّة(6).
فتحت صحيفة ”سياتل تايمز“ (SeattleTimes) تحقيقًا مُطوّلًا لمعرفة ما الذي حدث، والذي يُمكن تلخيصه بتدخّلات سياسيّة تخدم مصالح أمريكا وتجعل صورتها ألمع أمام العالم، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحدّث مع مسؤولين من الشركة وحاول بشكل أو بآخر توفير تسهيلات لها لإطلاق جيلها الجديد دون الكثير من التعقيدات، فالطائرة من وجهة نظره لا تحتاج للكثير من التقنيات في ظل وجود الطيّارين(8).
|
التسهيلات حتى لو وصلت من البيت الأبيض، بأوامر من ترامب أو من غيره، فإن ما حصل من تقصير من قبل هيئة الطيران الفيدرالية لا يقبله أي عقل، فالتقرير الصادر عن الهيئة بعد الاختبارات الأوليّة بيّن وجود بعض المشاكل التي تحتاج لوقت طويل لمُعالجتها، وهو أمر قامت جهات عُليا من الهيئة بالتساهل فيه بعدما أمرت المُهندسين المسؤولين عن الاختبارات بالقفز عن بعض الأمور لأنها غير حسّاسة ولا تؤثّر على عملية الطيران الطبيعية(6).
ولتسريع وصول الطائرات الجديدة إلى الأسواق، اكتفت الهيئة بالاختبارات التي قام بها مُهندسوا ”بوينع“ داخل الشركة، وهم مُهندسين مُعتمدين من الهيئة، إلا أنهم في النهاية يعملون لنفس الشركة ويُمكن الشكّ في انحيازهم لها على حساب السلامة العامّة، الأمر الذي من أجله توفّر الهيئة مُهندسين مهمّتهم الرئيسية هي اختبار الطائرات بعض النظر عن الشركة المُصنّعة لها.
الأرقام الواردة في التقرير لم تكن صحيحة أيضًا، وهنا الحديث عن زاوية مَيلان الجناح الخلفي التي ذُكرت أنها ستكون 0.6 زاوية فقط، إلا أن الاختبارات فيما بعد أثبتت أن زاوية المَيلان وصلت إلى 2.5 درجة على الأقل، وهنا تتعارض نتائج الاختبارات مع ما ورد في التقرير، وهذا خطأ آخر تجاهلته الهيئة عن قصد لأن تقارير الطائرات لا تتم عملية تحديث الأرقام فيها أولًا بأول، وهذه رواية اتفق عليها أكثر من شخص داخل الهيئة(6)(9). وإضافة للسابق، فإن النظام الآلي لم يتم وضع حدود له، فمن المُفترض أن يتوقّف عن التدخّل عندما يستلم الطيّار زمام الأمور، إلا أن التحقيقات أثبتت استمراره في العمل مُحدثًا صراعًا بين الطيّار ونظام القيادة الآلي الذي أدّى لسقوط الطائرة.
البيانات الأولية تُشير إلى أن طائرة الخطوط الأثيوبيّة سلكت نفس مسار الطائرة الأندونيسية، أي أن مُقدّمة الطائرة انخفضت وارتفعت قبل أن ترتطم بالأرض وتودي بحياة جميع من كان عليها، بانتظار المزيد من البيانات التي قد تؤكّد، أو تنفي، تدخّل نظام المناورة الآلي(11). لكن وفي الوقت الحالي، فإن طائرات ”737 ماكس“ مُنعت من الطيران بشكل كامل، كما وعدت الشركة بتوفير تحديث للنظام مع نهاية (مارس/آذار) 2019 أملًا في الحصول على الموافقات من جديد والعودة للطيران دون مخاوف(10).
في النهاية، يبدو أن تأثير غباء السياسيين لا ينحصر فقط في إجراء حروب، وإثارة فتن، يذهب ضحيّتها آلاف الأبرياء دون سبب مُقنع، فشخصيّة ”أبو العرّيف“ التي يُريد الحاكم فيها السيطرة على كل مظهر من مظاهر الحياة والظهور بصورة العالم الخبير لها تأثيرات أيضًا شُوهدت نتائج في طائرات شركة ”بوينغ“ وفي مجزرة ”نيوزيلاندا“ الأخيرة أيضًا.